مقالات

30

سعدية مفرح
ليلة بروين!
01 ديسمبر 2025 , 03:00ص

لم تكن الأمسية الشعرية التي قدّمتها بروين حبيب في معرض الكويت الدولي للكتاب الأسبوع الماضي مجرّد لقاء أدبي عابر، بل بدت كما لو أنّها نافذة أوسع على روحٍ تتوهّج كلّما اقتربت من النار، وتهدأ كلّما صعدت بها اللغة إلى مقامٍ أعلى من احتمال المرء. كانت بروين، في تلك الليلة، تحضر بكامل هشاشتها وقوّتها معًا، بكامل ما في صوتها من غناءٍ مكسور، وما في قصائدها من قدرةٍ على تحويل الخسارات إلى معنى، والمعنى إلى دفقة حياة.


كنت أعرف مسبقًا أنّ بروين لن تقدّم قصائد تُسمَع فحسب، بل قصائد تُعاش. ذلك النوع من الشعر الذي لا يمرّ على سطح القلب، بل يغوص مباشرةً في طبقاته البعيدة، ويترك هناك أثرًا لا يزول بسهولة.


كلّ قصيدة ألقتها تلك الليلة كانت كأنّها شرفةٌ مفتوحة على عالمٍ آخر؛ عالم تسكنه الأمّهات المكلومات، والطفلات المقطوعات من دفء العالم، والرجال الذين غابوا قبل أن تكتمل حكاياتهم، والنساء اللواتي يتقاسمن مع الليل أسرارهنّ ويتركن للقصيدة مهمّة البوح، وعن وجع القلب كله «غزة»! 


في قصيدتها عن يوسف، ذلك الطفل الذي تفتّش عنه أمٌّ تحت القصف، بدا المشهد أكبر من جغرافيا القصيدة. كان يشبه صرخةً طويلة تمدّ يدها نحو العالم ولا تعود. تسأل الأمّ: “هل رأيتم ولدي؟”، وكأنّ كلّ أمّ فقدت ابنًا في غزة أو في أي أرضٍ مماثلة تجلس خلف الصوت وتردّد السؤال ذاته. شعر بروين في هذه اللحظة لا يصف الطفل، بل يعرّي الفاجعة نفسها. فالحليب البارد على المائدة، والشموع التي لم تُشعل، والدفتر الذي بقي بلا نجمة نصر… كلّها تتحوّل إلى شواهد صغيرة على غياب أكبر من أن يُفهم.


أمّا في “بواكي حمزة”، فقد استعادت بروين حكاية قديمة لتقول جرحًا حديثًا. أخذت من التاريخ جملة النبي صلى الله عليه وسلم: “ولكنّ حمزة لا بواكي له”، ووضعتها في فم طفلة فلسطينية تخاطب أباها الشهيد، فتتشابك الأصوات والحقب، ويصبح الماضي طريقًا للمستقبل لا مرآةً له. فجأةً رأينا الطفلة تنوب عن نساء الأنصار، تنوح عنهم جميعًا، وتفتح للقصيدة نافذة على كلّ القبور التي لا تجد صوتًا يبكيها.


وفي قصائد أخرى؛ مثل “أربع رسائل من فروغ”، كانت بروين تفتح دفترها الداخلي، الدفتر الذي لا يُقرأ عادةً إلّا على حافة الألم. تعود إلى علاقاتٍ إنسانية محطّمة، إلى عشّاق يتعثرون في طرقهم الموحلة، وإلى نساء يسقطن ويقمن، وكأنه لا خلاص إلا في الكتابة. تلك الرسائل، التي تنساب مثل نهرٍ حزين، تحمل في طيّاتها سيرة أنثى تتحدّى قدرًا لا يرحمها، وتصرّ مع ذلك على أن تجرّب كل أشكال الحب حتى نهاياته الموجعة.


وفي قصيدة “البدينات الجميلات”، التي استحضرت فيها محمود درويش، تقلب بروين المعايير، وتقف ضدّ النظرة القاسية التي تُمارَس على أجساد النساء. هناك، هي واحدة من أكثر قصائدها طزاجةً ومرحًا، تتمازج فيها السخرية بالبهجة، وتتحوّل فيها الأنوثة إلى احتفال ممتدّ لا يخشى الوزن ولا المقاييس.


وفي “عشتار” و “الأوراق السومرية”، ظهرت بروين في هيئتها الأسطورية؛ امرأة تخرج من عمق الميثولوجيا لتعيد كتابة مصيرها بيدها، وتواجه الوحشة بحبّ لا ينطفئ ولا يتراجع.


خرجتُ من الأمسية أحمل معي شعورًا غريبًا: كأنّ بروين لم تقرأ قصائد بقدر ما رفعت ستارةً عن نفسها، وتركتنا نرى ما خلفها. كانت القصائد تضيء وتجرح وتضمّد في اللحظة نفسها، وكانت بروين، بتوازن جميل، تكتب عن الحب كما لو أنّه وطن، وعن الوطن كما لو أنّه حبيب، وعن الفقد كما لو أنّه الطريق الوحيد الذي تعلّم الشعراء المشي فيه.


ولعلّ أجمل ما في الأمسية أنّها لحظة تذكّرنا بأن الشعر ما يزال قادرًا على تقليب الهواء من حولنا، وعلى إعادة تشكيل أرواحنا في كل مرّة نقف فيها على عتبة بيت من أبيات القصيدة.


وهذا وحده، يكفي لتكون الأمسية واحدة من ليالي المعرض التي لا تُنسى.

مقالات ذات صلة

مساحة إعلانية