الخط العربي، بأشكاله المتكسرة والمتدفقة، ليس زخرفة، إنه روح اللغة المنقوشة، صرخة صامتة أو ترنيمة داخلية. في بعض الأعمال (كاللوحة الثالثة)، يتحول إلى هيكل عظمي للعمل، خطوط سوداء عريضة ومتحررة ترقص فوق رقعة شطرنج من الألوان المشرقة والمتباينة، تشبه رموزاً سحرية أو كفّاً يخط القدر، وكأن الفنان يستعير قوة الحرف ليعبر عن اللامنتهى من المعاني غير القابلة للتحديد اللفظي. في هذا الاستخدام للحرف كلغة روحية، نلمس قرابة بين بشير بشير وتجربة محمد المليحي في المغرب وسامي برهان في سوريا، حيث يصبح الحرف كائناً حياً يختلط بالجسد وبالأرض، ليحمل بصمة الوجع والأمل، تماماً كما في أعمال جوان ميرو التي تترجم البساطة إلى رمز للحرية والطفولة الكونية.

الدراما اللونية هي النبض الجوهري الذي يحرك هذه الأعمال. فالألوان ليست مجرد تعبئة، إنما هي طاقة خام. لذلك نجد تداخلاً عنيفاً بين الألوان الترابية الدافئة التي ترمز إلى الجذور والأصل، وبين الأزرق السماوي والأصفر المشع اللذين يمثلان الهروب والتجرد والأفق المفتوح. هذا التناغم المتوتر يخلق شعوراً بالاغتراب والتوحد في آن. التلطيخ والفرشاة العريضة يمنحان التكوين حسّاً قوياً بالوجود المادي للرسام واللوحة، وكأننا نشهد عملية التشكيل في لحظتها البدئية. هنا تقترب التجربة من حسية فان غوخ المشتعلة بالانفعال الوجداني، ومن التجريب اللوني لدى مارك روثكو الذي جعل من اللون فضاءً للتأمل والتطهر.

إن أعمال بشير بشير هي حوار متواصل بين الفردانية والجماعية. ففي قلب الكتل الملونة، تظهر تجمعات بشرية صغيرة، همسات من الحشود، أفراد يتكاتفون أو يتنافرون داخل سياق أكبر، يذكرنا بالإنسان كجزء لا يتجزأ من جدارية المجتمع والذاكرة المشتركة. هنا يمكن أن نتذكر لوحات جياكوميتي التي اختزلت الإنسان في هيئة نحيلة لكنها شامخة، أو أعمال محمود سعيد التي التقطت نبض الجسد الشعبي في وهجه الإنساني العميق. هذه اللوحات هي إطلالة على كينونة بشرية تبحث عن ملاذ روحي ومرساة في عالم مضطرب، حيث الفن هو الشهادة الوحيدة الباقية على أن الروح لا تزال تقاوم، ترسم وتكتب مصيرها بجمال قاسٍ وعميق.

هذا هو النثر البصري لبشير بشير، نثرٌ كثيف ومتدفق، يروي حكاية الإنسان الأزلية، ويؤكد أن الفن حين يخرج من رحم المعاناة، يغدو شهادة على أن الجمال ليس ترفاً، بل خلاصاً إنسانياً عميقاً من جحيم العدم.