في عرضها الأخير، مساء أول من أمس الأحد على خشبة مسرح المونو في بيروت، قدّمت مروى خليل وجنيد زين الدين مسرحية “طربوش جدّي معلّق” أمام صالة ممتلئة بالجمهور، وما إن تُفتح الإضاءة حتى تتدلّى الطرابيش الحمراء من سقف الخشبة، عشرات منها معلّقة بخيوط رفيعة.
تبدأ المسرحية، التي سيتواصل عرضها في La Cité جونية في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، بجملة بسيطة تقولها هلا “بلّشت القصة هون” وكأن الفضاء المسرحي يتحوّل فجأة إلى ملجأ من ثمانينيات الحرب الأهلية حيث وُلدت قصة الحب الأولى بينهما.
النص كتبته مروى خليل بالاشتراك مع رياض شيرازي وأخرجه الأخير، ولا يقدّم مجرد قصة حب بل يلتقط مسار بلد كاملاً خلال أربعين سنة، مستوحى جزئياً من تجربة شخصية لمروى التي عاشت الاغتراب بين أكثر من بلد، تماماً مثل هلا التي خبرت معنى “التعود على مكان جديد” ثم اكتشفت أنها ما زالت تنتمي إلى بيروت رغم كل شيء. أخذت من تجاربها عناصر العزلة والحنين ومحاولة الاندماج ثم إحساس “اللا-انتماء” الذي يرافق اللبناني أينما ذهب، وحوّلته إلى نص يربط الخاص بالعام.
تمتد الحكاية من الملجأ إلى الاغتراب ومن الاجتياحات إلى الانفجارات بين بيروت التي بقي فيها إبراهيم وبين العواصم التي تنقّلت بينها؛ من باريس إلى كندا ثم دبي، كأنها تجسّد النموذج الأكثر شيوعاً للاغتراب اللبناني؛ حب لا ينطفئ للوطن، حب فيه الكثير من الألم لا يسمح لصاحبه بالبقاء فيه طويلاً. الانتقالات بين المحطات السياسية دقيقة ومؤثرة، إذ يحمل كل زمن مفرداته الخاصة ومشاعره. كل محطة تظهر مثل صورة مُلصقة على الستائر البيضاء خلف الممثلين لتبرز معالم البلد الذي يستقبل المغترب من دون أن يحضنه.
الصراع الداخلي بين البقاء والمغادرة، بين حب الوطن والعاطفة
المسرحية لا تعتمد على خطاب سياسي مباشر، لكنها تبني ذاكرتها الجماعية من خلال المفردات والمواقف في لحظة عندما يذكر جنيد مفردات تعود إلى حقبة لبنانية معينة زمانية ومكانية يعلو ضحك الجمهور بصوت واحد، ضحك لا يشبه الفرح بل هو صدى مشترك لذكريات مؤلمة تحولت إلى سخرية.
السرد يحمل نبرة فلسفية خفيفة ويستكشف كيف يتحول الشيء الذي نحمله رمزاً للانتماء إلى أثر يذكّرنا بالمكان الذي كنا فيه. هلا اللبنانية الفرنكوفونية تستعمل كلمات كثيرة بالفرنسية فيسخر منها إبراهيم قائلاً “طربوش جدّك كاين معلق على tour eiffel؟”، مضيفاً سخرية مختلطة بالعتب، حيث اختلاف اللغة يصبح دليلاً على المسافة بينهما.
كل مدينة تترك أثرها في شخصية هلا وفي لغتها؛ باريس الواجهة الرومانسية واللامعة تزينها موسيقى خفيفة وكلمات فرنسية متقطعة لتكشف عن رومانسية مبالغ فيها، جزء منها مستعار من المدينة نفسها. في كندا تصبح الحياة أكثر برودة، والمفردات اليومية تصف الروتين الرسمي، والشتاء الطويل صمت ممتد يعكس إيقاع المدينة البطيء، أما دبي فتفرض سرعة وأضواءً متلألئة. هنا تمزج هلا العربية والإنكليزية بسرعة وكلمات مثل project وdeadline وpackage، تعكس استهلاك الوقت والفراغ الداخلي في الغربة.
العلاقة بين هلا وإبراهيم تحمل بعداً “توكسكياً” بمعناه الوجودي؛ علاقة اللبناني بوطنه: هلا، التي غادرت بيروت بحثاً عن أمان لم تجده، تعود دائماً لتعطي المدينة فرصةً جديدة، باريس تُغريها بلغة جديدة، كندا تبهرها بانضباط الحياة، ودبي تقدّم أماناً اقتصادياً، لكن شيئاً من كل ذلك لا ينجح في اقتلاع جذورها من المكان الأول.
إبراهيم يمثل الوجه الآخر لهذه التجربة. بقي في بيروت حين غادر الجميع ورفض السفر إلى دبي حتى عندما حصل على الفيزا ليلتقي هلا مجدداً، ويعلّل موقفه قائلاً “إذا فِلت… بيروح كل شي” ليس المقصود “كل شي” العاطفي فقط بل “كل شي” الرمزي؛ الذاكرة والارتباط بالأرض، المعنى الذي يعطي للحياة استمراريتها. يمثّل إبراهيم جيلاً لبنانياً كاملاً بقي رغم الحروب ورغم وعود الاستقرار المتأخرة ورغم الخراب الذي لم ينتهِ منذ 1980 حتى اليوم.
أداء جنيد زين الدين كان لافتاً، قدم انتقالاً واضحاً من الأدوار الكوميدية إلى الأداء الجادّ والهادئ، ولعب شخصية إبراهيم بثبات وبطبقة صوت منخفضة تعبّر عن “الرجل الذي بقي” رغم كل التحولات، وأبدع في تقديم شخصية تعتمد على الكتمان والصبر والانتظار لا على الانفعال، وأعطى ثنائية “الغربة/البقاء” توازناً حقيقياً. هلا تتحرّك وإبراهيم يبقى وهذا يحتاج إلى ممثل قادر على تجسيد السكون العاطفي العميق، الضحكة المكسورة، الصمت الطويل، والنبرة التي يختلط فيها العتاب بالحنين، ما يجعل شخصية إبراهيم محورية في نقل إحساس الانتماء والاغتراب لحظة قوله “أخدت فيزا ع دبي… وما رحت كأنّي إذا رحت بيروت بتنهار” تلخّص الصراع الداخلي بين البقاء والمغادرة، وبين الحب للوطن والحب للشخص المقابل.
