منذ لحظة عرضه الأولى، أثار مسلسل “ورد وشوكولاتة” جدلاً واسعاً في الأوساط المصرية، فالواجهة التقديمية للمسلسل، التي أعلن فيها صُنّاعه أنّ أحداثه مستلهمة من جرائم حدثت بالفعل، دفعت بكثيرين إلى تشبيه أحداثه بقضية مصرية شهيرة قُتلت فيها إعلامية على يد زوجها القاضي، وهو الأمر الذي جاء ليشير إلى طبيعة الخلط الذي يحصل في أذهان الجماهير عند مقاربتهم لعلاقة الدراما بالواقع.

الدراما قد تُستلهم من الواقع وقد تحمل ملامح قصص حقيقية، لكنّ الاستلهام لا يعني التطابق، ولا يفرض على العمل أن يتحوّل إلى نسخة طبق الأصل من الحادثة، فهذا التماهي الذي يصنعه الجمهور أحياناً بين الدرامي والواقعي يختزل الفن في وظيفة توثيقية، بينما هو في جوهره محاولة لفهم الإنسان، لا إعادة إنتاج ملفّات الجرائم.

في هذا السياق، يقدّم المسلسل تركيبة شخصيات تتجاوز الثنائيات المألوفة بين الخير والشر، إذ إن الشخصيات لا تظهر كقوالب جاهزة بل كمزيج معقّد من الدوافع والهشاشات والأطماع والرغبات، بحيث يحمل كلّ منها جانباً قاتماً وجانباً يمكن الإمساك فيه ببذرة خير، ما يجعل علاقاتها وتحوّلاتها أقرب إلى الحياة منها إلى التمثيل البعيد عن الواقع.

يركّز المسلسل على تصوير العنف المستتر ضدّ النساء، ذلك العنف الذي لا يظهر بالصراخ أو الضرب بل يختبئ خلف غلافٍ لطيف، يشبه الورد والشوكولاتة، وهما الرمزان اللذان حملهما عنوانه.

ففي ظلال غلاف الحبّ اللطيف الذي تتسم به علاقة الإعلامية مروة بالمحامي صلاح تكمن طبقات من العنف المستتر، الذي يأخذ المسلسل بالكشف عنها تباعاً، حيث يحكي من خلال هذا الكشف عن الآليات التي يُصبح فيها الإغواء مقدّمة للسيطرة ومدخلاً نحو تسلل العنف النفسي خطوةً خطوة إلى تفاصيل الحياة اليومية، ليتحوّل إلى عنف مادي يقود نحو القتل أحياناً.

الإغواء بوصفه مدخلاً للهيمنة

يُظهر المسلسل أن العلاقة بين مروة وصلاح تبدأ بخط رفيع يجمع بين الحذر والانجذاب، فقد بدا اللقاء الأول بينهما – حينما استضافته في برنامجها – صدامياً، لكنّ صلاح كان متقناً لفن التقدّم خطوة خطوة دون إثارة الريبة أو الكشف عن نيته في السيطرة.

أولى خطواته كانت في أن يُساعدها في استعادة ابنتها بعدما خطفها طليقها كوسيلة ضغط عليها للعودة إليه، وكان مقصده من وراء ذلك أن يظهر بمظهر “المنقذ”، أي الرجل القادر على منحها شعوراً بالأمان في لحظة ضعفها، وهكذا بدأ باتباع استراتيجية إغواء بهدف جذبها نحوه ثمّ السيطرة عليها.

أثار مسلسل “ورد وشوكولاتة” جدلاً واسعاً في الأوساط المصرية، فالواجهة التقديمية للمسلسل، التي أعلن فيها صُنّاعه أنّ أحداثه مستلهمة من جرائم حدثت بالفعل، دفعت بكثيرين إلى تشبيه أحداثه بقضية مصرية شهيرة قُتلت فيها إعلامية على يد زوجها القاضي

في كتابها “لماذا بقيت؟ آليات السيطرة العاطفية”، تصف آن كلوتيلد زيغلر هذه الاستراتيجية الإغوائية التي يتبعها الرجل النرجسي في البدايات بقصد السيطرة على المرأة، بأنّها حركة مدروسة؛ حيث يُلمّع النرجسي صورته لدرجة المبالغة، فيحوّل ما هو عادي إلى بطولي وما هو صغير إلى إنجاز خارق.

وتضيف زيغلر أنّ النرجسي يعمل خلال مرحلة الإغواء على إغراق المرأة بالحبّ عبر استغلال كل الثغرات التي يلمحها في أعماقها، مثل خوفها من الفقد، حاجتها إلى الطمأنينة، وتوقها لأن تشعر بأن أحداً يُمسك بيدها، فيغمرها بحضوره ويبعث لها برسائل لا تنقطع، ويغمرها باطمئنانٍ متزايد، ويُلقي على مسامعها بوعود واثقة كأنها حقائق أبدية. فهيَ كلما اضطربت هدّأها؛ وكلما غارت طمأنها؛ وكلما خافت حضر.

ومع الزمن، وبعد أن يُعطيها هذا الإغواء ضماناً زائفاً بالأمان، يبدأ بممارسة أساليب السيطرة النفسية والعنف غير المرئي عليها، فتجد نفسها عالقة في علاقة لم تعد تعرف أين يبدأ فيها الحب، وأين تختبئ فيها الهيمنة.

العنف النفسي واستنزاف المرأة الصامت

كأنّ العنف غير المرئي يبدأ غالباً من حيث تظنّ المرأة أنّها نجَت؛ من الوعد، ومن اليد التي تبدو كأنها تمتدّ لإنقاذها، فبعد جماليّات الإغواء وبهرجة البدايات، ينجح صلاح في أن يجعل مروة تهرب في الليلة نفسها التي ارتدت فيها فستان زفافها بنية العودة لطليقها، ثم يتزوّجها سرّاً بذريعة أنّ السرّ مرحلة مؤقتة وأنّ إعلان زواجه منها قريب جداً.

يقول صلاح لمروة في الليلة التي يتسلّل فيها إلى زفافها: “على فكرة يا مروة، أنا ما بعزّش حاجة وما بطّلهاش، وأنا عاوزِك”، واللافت أن عبارته هذه كانت أول انكشاف فجّ لما يشبه الاستحواذ المقنّع بالعاطفة؛ إذ لا يشير هذا الكلام إلى رغبة في الشراكة بل إلى رغبة في الامتلاك، تماماً كما يصف علم النفس آليات العنف النفسي القائم على علاقة قوى غير متكافئة، حيث يسعى أحد الطرفين لإخضاع الآخر تحت وهم الحبّ ودفئه.

تبدأ نزعات صلاح بتملّك مروة والاستحواذ عليها بالتكشّف واحدة تلو الأخرى، ففي رحلة “شهر العسل” يطلب منها فعلاً جنسياً لا تستسيغه، غير آبه بشعورها، وكأن جسدها مادة مطواعة لا صوت له، ويصرّ بعدها أن يحبسها في الفندق حتى لا يراها أحد معه، فتَنفضَح مسألة زواجه منها، وحين تصله رسالة بأن زوجته الأولى في الطريق، يأمرها بالخروج فوراً وعندما ترفض ينقلب وجهه إلى وجه آخر؛ فيعلو صوته وينعتها بنعوت قاسية ويتهمها بالتخلّف والغباء، ثم يدفعها بقسوة إلى الخارج؛ وذلك في لحظة جمعت بين العنف النفسي والعنف المادي، وتحولت فيها مروة من “شريكة” إلى مجرّد جسد يُزاح وينبذ إلى الطريق.

بعد هذا الجرح الأول الذي يُسبّبه صلاح لمروة، يبدأ باتباع سلسلة طويلة من الأفعال التي يتجاهلها من خلالها؛ فهو لا يجيب رسائلها، ويتركها شهراً كاملاً بلا زيارة، ثم يرسل لها يومياً ورداً وشوكولاتة كتعويض هشّ لا يرمّم غيابه، بل يرسّخ علاقة القوة التي تسمح له بالغياب، وتطلب منها الامتنان على الفتات. فهذه الهدايا، في سياق كهذا، ليست حباً بل آلية ضبط ومحاولة لتهدئة الألم من دون معالجة أسبابه.

مع مرور الأيام، يتعزّز لدى مروة شعور قاسٍ بأنها ليست سوى “أداة للمتعة”، تُستحضر حين يشتهي وتُهمَل حين يكتفي، وهذا الاستنزاف الصامت يُعتبر من أبرز تصنيفات العنف النفسي الذي يمارسه الرجل على المرأة.

ويتعمّق العنف النفسي الذي يمارسه عليها حين يتدخّل في حياتها المهنية، فيوقف برنامجها ويعزلها عن الناس. ففي هذا الفعل يظهر أحد أخطر أشكال السلوكيات ضمن فئة “السلوكيات المهينة”، وهو حرمان المرأة من دوائرها الطبيعية، وتعطيل قدرتها على التعبير، وإخضاعها لفراغ لا يمتلئ إلا به، فمحاولته السيطرة على مساحتها المهنية والاجتماعية ليست فعلاً عابراً، بل هندسة ممنهجة لقطع مصادر الدعم عنها، وإبقائها في علاقة غير متوازنة.

العنف النفسي وسقوط الضحية

كانت مروة تدرك، في مكان ما داخلها، أنّ ما تتعرّض له ليس حباً بل قبضة نفسية تُحكِم السيطرة على روحها. ومع ذلك، لم تستطع الرفض لأن هذا العنف كان يغذّي فيها مشاعر حبٍّ افتقدتها طويلاً، وبدأت حياتها بالانهيار تدريجياً، حيث انزلقت من كونها مذيعة واثقة، لا ينافس حضورها أحد إلى امرأة مهزوزة تدور في فلك صلاح وحده، تلاحقه، وتقتحم خصوصياته، وتفتّش في حياته كأن خلاصها مرهون بيده.

وبفعل هذا الانهيار، صارت تجرجر نفسها إلى طبيب نفسي، وكلما حاولت أن تقف من جديد أو تُظهر شيئاً من قوتها، كان يستدعي ضعفه هو، يفتح أمامها خزائن حياته المظلمة ويعرض جراحه ليوقظ رأفتها ويجبرها على البقاء.

في المحصلة، لم تكن مروة استثناء، بل نموذجاً لتلك المرأة التي تقع تحت سيطرة أذًى لا يُرى، تعرف أنه يدمّرها لكنها لا تملك القدرة على الفكاك منه، لأنّ العنف النفسي المغلّف بدعوى الحبّ يُبقي ضحيّته متعلّقة بمصدر الأذى بقدر ما يُنهكها، وتكون هناك فكرة مترسّخة داخل لاوعيها بأن الخلاص يشبه الهلاك.

يركّز المسلسل على تصوير العنف المستتر ضدّ النساء، ذلك العنف الذي لا يظهر بالصراخ أو الضرب بل يختبئ خلف غلافٍ لطيف، يشبه الورد والشوكولاتة، وهما الرمزان اللذان حملهما عنوانه

العنف النفسي أشدّ خطورة من العنف الجسدي، لأنه يعمل بلا صوت ولا أثر ظاهر، يزحف على المرأة من دون أن يترك كدمة يمكن رؤيتها، ويقوّض صورتها الداخلية قبل أن يمسّ جسدها. هو امّحاء تدريجي للذات؛ وإهانات صغيرة تتراكم، ونظرات ازدراء، وتهميش مقصود، وتحجيم للأحلام، وفرض لقيود تُمرّر بوصفها حرصاً أو حباً. وهو بهذا الأسلوب يوجد إخضاعاً صامتاً يصعب على القانون توثيقه، ويصعب على المرأة نفسها الاعتراف به.

ومع الوقت تتحوّل آثاره النفسية إلى آلام جسدية؛ صداع بلا سبب، ضيق في التنفس، ارتجاف، اضطرابات نوم، وجسد يبوح بما تكتمه الروح. وحين تستمر الدائرة، تُدمن المرأة المهدّئات، وتفقد إحساسها بقيمتها، وتتشوّه قدرتها على اتخاذ القرار. إنّه عنفٌ يلتهم المرأة من الداخل، ويحوّل حياتها إلى عتمةٍ بطيئة. تأثيره لا يشبه العطب الواضح الذي يخلّفه الضرب، بل يبدو كانهيارٍ خفيّ، يتسلّل مثل شقٍّ في جدارٍ قديم، لا يُرى أثره إلّا حين ينهار الجدار كلّه دفعة واحدة.

العنف النفسي بوصفه مقدمة للقتل

أظهرت بيانات الأمم المتحدة التي صدرت حديثاً في هذا العام أنّ 83 ألف امرأة وفتاة قُتلن عمداً خلال عام 2024، 60% منهنّ على يد شركاء حميمين أو أفراد من أسرهنّ.

كثير من هذه الجرائم ربما كان امتداداً لسلسلة من العنف النفسي والتحكم والتقييد الذي بدأ بصمت، لكنه تصاعد تدريجياً حتى وصل حدّ القتل. وكان من الممكن منع عدد كبير من هذه الجرائم لو امتلكت المرأة الجرأة لرفض أشكال العنف النفسي منذ بداياتها قبل أن تتطور إلى اعتداءات مادية.

يأتي مسلسل “ورد وشوكولاتة” ليُنبّه المرأة إلى ضرورة امتلاك الشجاعة للاعتراف بالعنف النفسي والحدّ منه قبل أن يتحوّل إلى تهديد مادي مباشر، فعليها أن تمتلك القوة لوقف استمرار السيطرة وأن تبتعد عن الشريك النرجسي، وذلك ما من شأنه أن يمنحها فرصة للحياة والأمان قبل أن يتحول صمتها وخضوعها إلى مأساة حقيقية.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.