في مفارقة درامية تعكس الصراع بين الولاء الثقافي والالتزام السياسي، انقلبت ملايين التذاكر والحجوزات الخاصة بفعاليات الأنمي والبوب الياباني إلى مجرد قصاصات ورقية في الصين.

ففي وقت قياسي، تحول المشهد الفني الصيني إلى ساحة انتقام دبلوماسي، حيث استخدمت بكين سلاح “الحظر الثقافي الصامت” لردع طوكيو عن تصريحاتها الأخيرة بشأن تايوان.

هذه الحملة الشاملة، التي تشمل حاملي البطاقات الخضراء وطالبي اللجوء والطلاب، أثارت موجة عارمة من الخوف والارتباك في أوساط ملايين المهاجرين الذين يواجهون الآن مصيراً مجهولاً لقضاياهم العالقة.

بدأت الأزمة بعد تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي ، التي أشارت فيها إلى أن اليابان قد ترد عسكرياً إذا تحركت الصين للسيطرة على تايوان بالقوة، وهو ما تعتبره بكين “خطاً أحمر”.

تبع ذلك موجة من الإجراءات التنفيذية التي أدت إلى إلغاء أو تأجيل عروض ولقاءات جماهيرية لأكثر من 30 فناناً يابانياً في المدن الصينية الكبرى، كان من ضمنهم نجمة البوب أيومي هاماساكي وفنانة البوب كوكيا.

وقد أشار المنظمون إلى أن الإلغاءات جاءت إما بسبب “أعطال في المعدات” أو بعد أن فرضت الشرطة المحلية شروطاً “صارمة للغاية” قبل ساعات من العرض، مما جعله مستحيلاً.

وكانت الحادثة الأكثر درامية هي إيقاف عرض مؤدية أغنية مسلسل “ون بيس”، ماكي أوتسوكي، في شنغهاي “فجأة” تحت مسمى “قوة قاهرة”، حيث تم سحبها من المسرح أثناء الغناء، في مشهد عكس بوضوح التدخل السياسي.

الرد الصيني لم يقتصر على الحفلات؛ فقد أوقف مستوردو وموزعو الأفلام إصدار العديد من الأفلام اليابانية الجديدة في الصين، مبررين ذلك بتأثر “مشاعر الجماهير الصينية”.

وربطت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، بين إلغاء الفعاليات وتصريحات تاكايتشي “الخاطئة”، مؤكدة أنها “جرحت مشاعر الشعب الصيني بعمق وزادت من سوء الأجواء للتبادلات”.

في المقابل، يرى المعجبون الصينيون أنفسهم كضحايا أول لهذه الحملة، حيث يقول أحد المعجبين إن السلطات “يجب ألا تستخدم الرأي العام لإثارة تعمد المشاعر العمياء المعادية لليابان”.

لا يمكن فصل هذه التفاعلات الدبلوماسية والثقافية عن الجذور التاريخية العميقة للصراع. فالصراع الحالي يغذي المشاعر القومية المتأصلة في الصين، والنابعة من فظائع الاحتلال الياباني في أوائل القرن العشرين وقضايا شائكة مثل الخلاف على جزر سنكاكو (التي تسميها بكين دياويو).

هذه الخلفية التاريخية تجعل من السهل على وسائل الإعلام الحكومية الصينية، في بيئة سياسية متشددة، تأجيج الخطاب المعادي لطوكيو، وتحويل أي تصريح سياسي مستفز إلى مبرر للانتقام الثقافي الواسع النطاق، وهو ما يعيد إلى الأذهان الاحتجاجات العنيفة التي استهدفت الشركات اليابانية في عام 2012.

على الرغم من هذا المناخ، يظل الإقبال الجماهيري على الثقافة اليابانية هائلاً، مما يخلق تناقضاً كبيراً. فقد حقق فيلم الأنمي “قاتل الشياطين: قلعة اللانهاية” إيرادات تجاوزت 630 مليون يوان (89 مليون دولار)، ليصبح ثاني أعلى فيلم مستورد تحقيقاً للإيرادات هذا العام.

كما استقطب “مهرجان العجائب” الياباني الأصل أكثر من 120,000 زائر في شنغهاي، مما يؤكد قوة الطلب المحلي على ثقافة الأنمي والمانغا والألعاب (ACG).

لكن هذا الشغف يقابله قلق متزايد؛ إذ تعرضت المعجبة الشابة يوي للمضايقات عبر الإنترنت لمجرد التساؤل عما إذا كان بإمكانها ارتداء زي الكيمونو (بقيمة 2000 يوان)، مما دفعها للتخلي عن الزي خوفاً من أن يُعتبر “غير مناسب”.

في ظل هذا الضغط، لا تقتصر الحملة على الإلغاءات الرسمية، بل تتجسد في سلاح الرقابة الذاتية والترهيب الرقمي. وتتضح هذه الظاهرة في واقعة المعجبة يوي، حيث أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحة للمعارك القومية.

وتتعرض أي مظاهر للثقافة اليابانية للانتقاد الحاد أو المضايقة، مما يدفع الشباب إلى فرض رقابة ذاتية قاسية على أنفسهم، وتكبد خسائر شخصية مثل التخلي عن أزياء مكلفة خوفاً من اتهامات “عدم الوطنية”.

كما تسببت الإجراءات بخسائر مالية مباشرة للمنظمين المحليين والأجانب، فقد خسر منظمون صينيون مثل كوشين تشاو حوالي 10,000 يوان (1,411 دولاراً) كتكاليف تشغيل غير قابلة للاسترداد.

واضطر المروج الألماني كريستيان بيترسن-كلاوسن لإلغاء ستة حفلات لفنانين يابانيين، مشيراً إلى أن الإلغاءات المفاجئة تضر بالشركات الناشئة في القطاع.

يخشى هؤلاء العاملون في القطاع من تكرار سابقة عام 2016، عندما فرضت بكين حظراً غير رسمي استمر لسنوات على العروض والدراما الكورية الجنوبية (K-Drama) كوسيلة ضغط اقتصادي، مما يهدد مستقبل عملهم بشكل كامل.

في ظل هذا الغموض، يبقى المصير غير مؤكد لملايين المعجبين والصناعات الثقافية التي أصبحت وقوداً في حرب دبلوماسية لا نهاية واضحة لها.

انتقدت وسائل التواصل الاجتماعي الصينية إلى حد كبير وقف الحفلات، حيث وصف البعض الحادث بأنه “وقاحة شديدة” و”يفتقر إلى الروح التعاقدية”. تواصلت شبكة سي إن إن مع منظمي الحدث والمكان للتعليق.

كما أوقف مستوردو وموزعو الأفلام إصدار العديد من الأفلام اليابانية في الصين، ويعزى ذلك جزئياً إلى “مشاعر الجماهير الصينية”، وفقاً لما ذكرته “أخبار السينما الصينية”.

وقالت وسائل إعلام رسمية: “تصريحات اليابان الاستفزازية ستؤثر حتماً على تصور الجماهير الصينية للأفلام اليابانية”.

لم تسعَ الصين إلى إنكار الصلة بين التوترات الجارية وعمليات إلغاء الفعاليات الترفيهية. فعندما سُئلت ماو نينغ، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، يوم الثلاثاء الماضي عن سحب إصدارات الأفلام والحفلات الموسيقية اليابانية الأخيرة، لم توضح طبيعة هذه القيود، لكنها أكدت أن تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي “الخاطئة” بشأن تايوان قد “جرحت مشاعر الشعب الصيني بعمق وزادت من سوء الأجواء للتبادلات الصينية-اليابانية”.

بدورها، قالت تاكايتشي إن تصريحاتها كانت “افتراضية” وأنها ستمتنع عن الإدلاء بتعليقات مماثلة في البرلمان مرة أخرى.

ولكن الآن، مع إصرار بكين على تراجع طوكيو عن تعليقات تايوان وقلة المؤشرات على استعداد تاكايتشي للقيام بذلك، يتساءل الكثيرون عن حجم الترفيه الذي قد يتأثر جراء تسرب التوترات الدبلوماسية إلى الفن، دون وجود نهاية واضحة في الأفق.