قبل أسبوعين من زيارته لبنان، استقبل البابا لاوون الرابع عشر صنّاع السينما في الكرسي الرسولي في لقاء حمل عنوان “لقاء مع عالم السينما”. خطوة تعكس حرص الحبر الأعظم على تعزيز الروابط بين الثقافة والإيمان. خلال هذا اللقاء، ألقى البابا كلمة تناول فيها رؤيته للسينما، هذا الفنّ الذي نشأ في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا قبل أن يمتد إلى أصقاع العالم كافة، راغباً في التركيز على دور السينما في نقل القيم وإشاعة الأمل وسط التحدّيات.

من بين أبرز الحضور في هذه الخلوة السينمائية: مونيكا بيللوتشي، غاس فان سانت، جوسيبي تورناتوري، كايت بلانشيت، وماركو بيللوكيو (من أكثر السينمائيين انتقاداً للكنيسة) وسبايك لي الذي وصف اللقاء بـ”يوم عظيم”، إلى جانب عدد آخر من صنّاع السينما. حملت كلمة البابا نبرة ودية، رعوية وتأملية، جمعت بين الثناء على السينما كفنّ وبين التوجيه الأخلاقي والروحي، مكلّفاً الحاضرين أن يكونوا شهوداً لا مجرد صنّاع. ركّز رأس الكنيسة الكاثوليكية على القيمة الروحية والثقافية والاجتماعية للسينما، وعلى تأثيرها الذي يتجاوز العقائد والأفكار والأديان.

العلاقة بين الكنيسة والسينما لم تكن دائماً سلسة. فعند ولادة هذا الفنّ الشعبي الكبير، تعاملت المرجعيات الدينية معه بحذر، إذ كان يُنظر إليه باعتباره وسيلة قوية تؤثّر في الجماهير، وهو ما كان يُعد تهديداً. على مر العقود، شهدت العلاقة بين الطرفين شدّاً وجذباً، نتيجة التفاوت بين حرية الفنّانين والتزام الكنيسة التعاليم الصارمة. لكن سرعان ما أدركت القيادة المسيحية أن الوقوف في وجه فنّ ينتشر بهذه السرعة أمر غير مجدٍ، فبدأت بالانخراط فيه، وأحياناً فرض الرقابة عليه. لسنوات طويلة، اعتاد الإكليروس على توبيخ أصحاب الأفلام الذين تجاوزوا “الخطوط المسموح بها” ومنع أعمالهم. ومن أبرز الأمثلة “الكود هايز” في هوليوود الثلاثينات والأربعينات، الذي فرضته ضغوط لوبيات دينية. ومع ذلك، لم تتّخذ المرجعيات العليا في الكنيسة الكاثوليكية موقفاً سلبياً دائماً من الشاشة الكبيرة، إذ دعمت أيضاً أفلاماً تعكس رؤيتها لشؤون الحياة. فقد حظي فيلم “آلام المسيح” لمل غيسبون مثلاً، بدعم جهات دينية عديدة. حتى أن الفاتيكان أسس المجلس الباباوي للاتصالات الاجتماعية تعزيزاً للحوار مع صانعي الأفلام، استجابةً لدعوة المجمّع الفاتيكاني الثاني للانفتاح على السينما، مع الحفاظ على القيم الروحية والأخلاقية الخاصة بالكنيسة.

 

خلال لقاء البابا لاوون مع أهل السينما في الفاتيكان.

خلال لقاء البابا لاوون مع أهل السينما في الفاتيكان.

 

انطلاقاً من هذا الحوار بين أطراف قد لا يتشاركون بالضرورة المفاهيم نفسها، ألقى البابا لاوون خلال اللقاء كلمة تحمل أهمية كبرى لفهم موقف الكنيسة الحالي من الفنّ، وهي في الوقت نفسه قراءة تتجاوز حكي رجل دين عن السينما لتصل إلى جوهر التجربة الإنسانية والروحية. كلمة استُهِلّت بالقول إن السينما، على الرغم من عمرها الذي تجاوز القرن، لا تزال فنّاً شاباً، حالماً، وقلقاً بعض الشيء. “في البدء، بدت مجرد لعب بالضوء والظلّ، تهدف إلى الإبهار والترفيه، لكن هذه المؤثّرات البصرية سرعان ما نجحت في التعبير عن حقائق أعمق، لتصبح في نهاية المطاف تجسيداً لرغبة الإنسان في التأمّل وفهم الحياة، وفي سرد عظمتها وهشاشتها، وتصوير شوقه إلى اللانهاية“. بهذه الكلمات راح الحبر الأعظم يتحدّث عن فنّ لطالما تصدّى إلى الممنوع والمحظور. 

عبّر لاوون عن امتنانه للسينما، واصفاً إياها باعتبارها فنّاً شعبياً بالمعنى الأسمى، موجَّهاً إلى الكلّ ومتاحاً لهم جميعاً: “من الرائع أن نرى كيف أن ضوء السينما الساحر، حين يبدّد الظلمة، يشعل في الوقت نفسه نوراً داخلياً. فالسينما تجمع بين ما يبدو مجرد ترفيه، وبين رواية المغامرة الروحية للإنسان. ومن أثمن إسهاماتها أنها تساعد المشاهدين في التفكير في حياتهم الخاصة“. 

اعتبر البابا أن دخول قاعة السينما يشبه عبور عتبة عالم آخر. ففي الظلام والصمت، تصبح الرؤية أكثر حدّةً، وينفتح القلب، ويغدو العقل مستعداً لتلقي ما لم يُتخيّل بعد. ومع ذلك، لم يغفل البابا عن طرح سؤال جوهري حول مستقبل السينما في ظلّ التحديات المعاصرة، داعياً إلى صونها وحمايتها. “المرافق الثقافية، كدور السينما والمسرح، هي القلوب النابضة لمجتمعاتنا، لأنها تسهم في جعلها أكثر إنسانية. فإذا كانت المدينة حية، يعود ذلك جزئياً إلى فضاءاتها الثقافية. علينا أن نسكن هذه الفضاءات ونبني علاقات داخلها. ومع ذلك، تشهد دور السينما تراجعاً مقلقاً، إذ يُزال الكثير منها من المدن والأحياء. كثيرون يقولون إن السينما والتجربة السينمائية في خطر“.

تطرق البابا إلى مسألة بالغة الأهمية، مستحضراً لغة أشبه بلغة روبير بريسون في كتابه الشهير “مدونات حول السينماتوغراف“. قال: “منطق الخوارزميات يميل إلى تكرار ما يثبت نجاحه، لكن الفنّ يفتح آفاق الممكن. ليست كلّ الأمور في حاجة إلى أن تكون فورية أو قابلة للتنبؤ. دافعوا عن البطء حين يكون له غاية، وعن الصمت حين يتكلّم، وعن الاختلاف حين يكون ملهماً. الجمال ليس مجرد وسيلة للهروب، بل هو استدعاء قبل أي شيء”.

وصف البابا الضيوف القادمين إلى روما من دول عديدة بأنهم “حجّاج للخيال، باحثون عن المعنى، رواة للرجاء، مبشّرون بالإنسانية”. قال إن رحلتهم لا تُقاس بالكيلومترات، بل بالصور والكلمات والمشاعر والذكريات المشتركة والرغبات الجماعية. استحضر كلمات البابا بولس السادس مخاطباً الفنّانين: ”إن كنتم أصدقاء الفنّ الحقيقي، فأنتم أصدقاؤنا“، مذكّراً بأن “هذا العالم الذي نعيش فيه يحتاج إلى الجمال كي لا يغرق في اليأس”. وأضاف: “أرغب في تجديد هذه الصداقة، لأن السينما ورشة رجاء، ومكان يمكن الناس أن يجدوا فيه أنفسهم وغاياتهم من جديد”. وأشار أيضاً إلى رؤى كبار روّاد الفنّ السابع، مثل ديفيد و. غريفيث الذي قال ذات مرة: “ما يفتقر إليه الفيلم المعاصر هو جمال الريح التي تهب بين أغصان الشجر”. وربط إشارته هذه بكلمات إنجيل يوحنا: “الرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لَكِنَّكَ لَا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلَا إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا يَكُونُ كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ”.

أخيراً، دعا البابا المخرجين إلى جعل السينما فنّاً للروح: “لا تخافوا من مواجهة جراح العالم. العنف، الفقر، المنفى، الوحدة، الإدمان، والحروب المنسية هي قضايا تحتاج إلى الاعتراف بها وروايتها. السينما الجيدة لا تستغلّ الألم، بل تتعرف إليه وتستكشفه”.