في خطوة وصفت بأنها غير معتادة، أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إرسال ممثل عن مجلس الأمن القومي للمشاركة في اجتماع مع مسؤولين لبنانيين، واصفاً ذلك بأنه محاولة لبلورة أساس للعلاقات والتعاون الاقتصادي بين البلدين، وترافق هذا الإعلان مع قرار لبناني متقدم اتخذه رئيس الجمهورية جوزاف عون بعد التشاور مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام قضى بتكليف سفير لبنان السابق في واشنطن سيمون كرم بترؤس الوفد اللبناني المشارك في لجنة “الميكانيزم”، وهي المرة الأولى منذ عام 1983 التي يترأس فيها مدني الوفد اللبناني، إذ كان التمثيل عسكرياً بحتاً طوال العقود الماضية.

واصل الجيش الإسرائيلي استهداف مناطق في جنوب لبنان، 4 ديسمبر 2025 (رويترز)
وأثار الطرح الإسرائيلي عن التفاوض الاقتصادي استغراباً وجدلاً واسعين، بخاصة مع نفي مصادر لبنانية رسمية أن تكون هذه الاجتماعات تهدف إلى التطبيع أو المفاوضات الاقتصادية، مؤكدة أن الهدف ينحصر في مراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار.
وأشار رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام إلى أن نتنياهو ذهب بعيداً في توصيفه هذه الخطوة، موضحاً أن لبنان ليس بصدد الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل، وأن أي تطبيع سيكون مرتبطاً بعملية السلام، وأكد أن “المحادثات الاقتصادية ستكون جزءاً من أي عملية تطبيع مع إسرائيل التي يجب أن تتبع اتفاق سلام، لكننا ما زلنا بعيدين”.
نيات مبيتة؟
قرأ كثر في الموقف اللبناني الرسمي، الذي مهد له الرئيس عون منذ أسابيع عندما أعلن استعداد لبنان للتفاوض ورفض خيار الحرب، محاولة لكسب الوقت وتجنيب لبنان تصعيداً إسرائيلياً من دون تجاوز سقف اتفاق الهدنة التاريخي. في المقابل، تسعى إسرائيل باستمرار إلى توسيع نطاق المفاوضات وجعلها مباشرة بما يخدم أهدافها الأمنية والسياسية، واعتبر بعض المراقبين أن طرح نتنياهو التعاون الاقتصادي مع لبنان يبدو أقرب إلى مناورة سياسية ودعائية تستغل انفتاحاً لبنانياً محدوداً ومشروطاً في آليات مراقبة وقف إطلاق النار، وقرأ فيه محللون استغلالاً دعائياً وسياسياً عندما وصف الإعلام الإسرائيلي الخطوة بأنها تظهر مظهراً من مظاهر التطبيع من الجانب اللبناني، وهو ما يمكن استخدامه لتسويق إنجاز دبلوماسي داخلياً وإقليمياً، فضلاً عن أنه محاولة للضغط على لبنان من جهة والسعي من جهة أخرى إلى إضافته إلى قائمة الدول المتعاونة اقتصادياً أو دبلوماسياً مع إسرائيل.
غموض الطرح وأهدافه الحقيقية
في السياق رأت الباحثة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت رندة حيدر أن عبارة نتنياهو عن “التفاوض الاقتصادي” مع لبنان تحمل في طياتها غموضاً كبيراً، واعتبرت أن الملف الوحيد الذي يمكن أن يجمع لبنان مع إسرائيل اقتصادياً هو موضوع التنقيب عن الغاز. وأكدت حيدر أن فكرة التفاوض السياسي بين البلدين هي فكرة أميركية وليست إسرائيلية، وأن الرئيس دونالد ترمب فرض على حكومة نتنياهو التخفيف من تهديداتها على لبنان، وأنه اعتبر أن تجاوب لبنان مع إرسال السفير سيمون كرم للتفاوض خطوة بناءة نحو التفاهمات مع إسرائيل، لكنها تساءلت “على ماذا سيتم التفاوض بالضبط؟”، وتجيب “بالتأكيد لن يكون على مواضيع اقتصادية، إنما على سلاح ’حزب الله‘”.
الصراع الإقليمي على النفوذ الاقتصادي
تدرك تل أبيب، بحسب حيدر، أن المفاوضات السياسية إذا أثمرت حلاً نهائياً لموضوع السلاح، فسيكون ثمنها انسحابها من لبنان وترسيم الحدود البرية بصورة نهائية، “لذلك، فإن التفاوض الحاصل حالياً يهدف إلى وقف الاعتداءات والتخفيف من حدتها، لأن الإدارة الأميركية لا تريد حرباً إسرائيلية جديدة في المنطقة”، وأشارت حيدر إلى الصراع الإسرائيلي – التركي على لبنان وسوريا اقتصادياً، والتنافس بينهما للحصول على النفوذ في كلتا الدولتين عند حصول الاستقرار السياسي وبدء مرحلة إعادة الإعمار، “إذ تسعى كل من تركيا وإسرائيل إلى أداء دور محوري في النهوض الاقتصادي في المنطقة”، وشبهت حيدر الكلام عن “المنطقة الاقتصادية” بين لبنان وإسرائيل بمشروع تحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق”، ووصفته بـ”الكلام الفضفاض”، وأكدت أن الحديث عن منطقة اقتصادية يستدعي أولاً أن يسمح الإسرائيليون لأهالي الجنوب بالعودة إلى قراهم، وخلصت إلى القول إن “هذا الكلام كبير ويهدف إلى إعطاء زخم لشيء غير مؤكد، إذ لا أحد يعرف إلى أين يمكن أن تنتهي هذه المفاوضات، أو إذا ما كانت ستنجح من الأساس”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلفيات عدة وأهداف مبطنة
من جهته اعتبر المتخصص الاقتصادي سامي نادر أن الكلام عن تفاوض اقتصادي له خلفيتان رئيستان، “الأولى مرتبطة باتفاق ترسيم الحدود البحرية، وسبق وأشار إليها نتنياهو في أكثر من محطة، كذلك طالب مسؤولون إسرائيليون آخرون بإعادة النظر بالاتفاق نفسه، الذي قد لا يستدعي إعادة النظر به إنما البحث ببعض آليات تنفيذه مثل نقل الغاز على غرار الاتفاقات القائمة بين مصر وإسرائيل، أو بين وقبرص وإسرائيل، والخلفية الثانية تتعلق بفكرة طرحت سابقاً، وهي إقامة منطقة اقتصادية على طول الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، تكون منزوعة السلاح لكن ليست منزوعة الحياة الاقتصادية والمدنية”، ولفت نادر إلى أن الهدف من بقاء إسرائيل في النقاط الخمس داخل الأراضي اللبنانية هو الاحتفاظ بورقة تفاوضية للحصول على مكاسب أخرى، وشدد على أن إسرائيل تدرك أنها لن تستطيع البقاء في هذه النقاط المحتلة، خصوصاً أن أميركا حددت ملف ترسيم الحدود البرية بين الدولتين بنداً أساساً في مشروع المفاوضات الذي وضعته، وشدد أيضاً على أن المطروح حالياً يختلف كلياً عن البند الاقتصادي الذي نص عليه اتفاق الـ17 من مايو (أيار) عام 1983، والذي انهار بعد أقل من عام على توقيعه، “فذلك الاتفاق نص على تبادل اقتصادي وعلاقات تجارية كانت ستكون حكماً مرتبطة باتفاق سلام شامل، أما المفاوضات اليوم فهي اتفاق الهدنة بلاس، أي إنها تبقى ضمن إطار اتفاق الهدنة مع إضافات محدودة، من دون الوصول إلى مستوى التطبيع أو السلام الكامل”.
الالتحاق بالتحولات الإقليمية
من جهته اعتبر النائب السابق فارس سعيد أن لبنان دخل مرحلة جديدة، “كان للبابا فرنسيس اليد الطولى فيها، وليس عابراً أن تعلن الجمهورية اللبنانية التفاوض وتكلف السفير السابق سيمون كرم من دون اعتراض حقيقي من قبل ’حزب الله‘ وحركة أمل”، ووصف سعيد الأمر بأنه “إنجاز متقدم يسجل لمصلحة الدولة في لبنان”، بخاصة أن نتنياهو أعلن في الوقت نفسه قبوله هذا الترتيب، ورأى سعيد أن إعلان لبنان التفاوض يعني التحاقه بدائرة التحول الهائل الحاصل في المنطقة، ودعا إلى عدم نسيان الاجتماع الذي عقد في شرم الشيخ في الـ25 من نوفمبر (تشرين الثاني)، “حيث اجتمع ممثلون عن أكثر من مليار مسلم، من ضمنهم نصف مليار عربي، أعلنوا خروجهم من الصراع العسكري مع إسرائيل، لذا لا يمكن للبنان إلا أن يكون في هذا الاتجاه”، لكن سعيد أضاف أن “هذا لا يعني أن المشكلات كلها ستحل”، وقال إن الكلام عن التفاوض الاقتصادي أو التطبيع لا يزال سابقاً لأوانه.
معركة تراكمية وليست ضربة قاضية
واعتبر سعيد أن الدولة اللبنانية كانت قبل ثلاثة أشهر متهمة بخسارة صدقيتها، بخاصة بعدما سبقها الرئيس السوري أحمد الشرع بالتفاوض مع إسرائيل، “لكن بعد زيارة البابا، تبين أن إعلان الجمهورية اللبنانية التفاوض مع إسرائيل تم من خلال ترتيب دولي، وأن ضبط الفيتو الإيراني حصل بترتيب عربي، لذا ليس صحيحاً أن الدولة اللبنانية فقدت صدقيتها لدى دول العالم”.وحذر سعيد من التوقع بالتوصل إلى نتائج بـ”الضربة القاضية”، مؤكداً أن هذه “عملية تراكمية ومعركة بالنقاط”: الانسحاب الإسرائيلي نقطة، وإعادة الأسرى نقطة، وتحديد الحدود البرية نقطة، وجعل الجنوب خالياً من السلاح نقطة، وضبط السلاح شمال الليطاني وداخل المخيمات الفلسطينية نقطة أخرى. وختم سعيد بالقول “بدأنا مساراً لن ينتهي بأيام، لكن المهم أننا أثبتنا إرادة التفاوض، وبشخص يتمتع بشخصية مميزة وإجماع لبناني وإقليمي ودولي، وطوبى لفاعلي السلام”.
