
مقولات وشعارات عديدة لاكها اللبنانيون لعقود طويلة وتتصل بأصل الموقف من إسرائيل وفصله. غير أنها، جميعها، لم تسهم إلا في التكثير والتضخيم من «الأساطير السياسية» المحلية، التي كثيرا ما تستخدم على سبيل المجاملة بين الطوائف: لك أن «تجاري» خرافتي، فأجاري خرافتك.
منها أن النموذج اللبناني في «العيش المشترك» الإسلامي المسيحي هو على النقيض من نموذج تحويل رابطة الدين إلى رابطة قومية. وليست هذه تحفة الممانعة. بل كان لمؤدلج المركنتيلية اللبنانية ميشال شيحا إسهامه في هذا المقام. بأن أعاد المناقضة بين النموذجين اللبناني والإسرائيلي الى تنافس أسطوري ممتد لآلاف السنين الى الوراء بين التاجر اليهودي والتاجر الفينيقي، في حين حرص الرهط الآخر من مقترحي ديباجة «القومية اللبنانية» الى أسطرة ثنائية ودية بين البلد المصدر لخشب شجر الأرز والمملكة المستوردة له لبناء الهيكل.
احتاجت المبارزة الخرافية بين النموذجين الى حصر اللبنانيين دينيا بهذه الثنائية الإسلامية المسيحية وإقصاء المكون اليهودي من ذاكرة البلد، بدءا من الحي اليهودي في المركز من عاصمته.
في مقابلها انوجد على الدوام، جهرا أو ضمرا، من يرى أن ما يجمع لبنان وإسرائيل بخلاف سائر بلدان المنطقة هو «الطابع غير الإسلامي» لهما. إنما وبدلا من الاستناد إلى الواقع التاريخي الفعلي، لكون المسيحيين كما اليهود تسري عليهم مجتمعين أحكام أهل الذمة في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة، وإلى الواقع التاريخي الفعلي المضاف، بأن ملل أهل الكتاب جميعها لطالما كانت تقدم التناقض فيما بينها على التناقض مع الإسلام والمسلمين، بل تستعين بالحكام المسلمين على بعضها البعض، وإلى الواقع التاريخي المتصل بالاختلاف الكبير بين سياق الجماعات التي لها تاريخ مديد توصلي في هذه المنطقة من العالم وبين حركة الهجرة اليهودية الإشكينازية الحديثة إلى فلسطين العثمانية، فقد جرى البحث عن أسطرة ثنائية «أحيرام وسليمان»: التلاقي الملكي، في العصر القديم الغابر، بدلا من تشكيل منظار تاريخي سياقي للمقابلة بين النموذجين، اللبناني والإسرائيلي.
ولبنان منذ اتفاق الطائف يقوم التوزيع الطائفي فيه على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في توزع عدد أعضاء البرلمان. لكن ما كان ليجري لو كان لليهود اللبنانيين الحق في الترشح للندوة النيابية؟ لا بل يفترض، نظريا أقله، أنه لهم الحق للترشح لمقعد الفئة المصنفة «أقليات» في بيروت، وهي الجماعات الأصغر عددا من الأقليات الكبرى والوسطى في بلد ليس فيه أكثرية. فلو كان بمقدور المواطن اللبناني اليهودي أن يصل للبرلمان، فكيف تبقى والحالة هذه «المناصفة» في شكلها الحالي القائمة على عدد زوجي قابل للقسمة الى اثنين.
مجتمع منقسم جديا ليس فقط حول إدارة الصراع مع إسرائيل بل حول النظرة الى إسرائيل نفسها
يأخذ «الحوار الإسلامي المسيحي» قسطاً من الأحابيل البلاغية والمجاملاتية بين رجال الدين والساسة والمثقفين ومجتمع الناشطين في لبنان. وهو حوار قائم في شكله المزمن على افتراض أن هناك ما يجمع الإسلام والمسيحية ولا يجمع اليهودية معهما، بل يجمعهما بإزائها. صحيح أن بعض الاهتمام «التراثي» ظهر في السنوات الأخيرة بما احتفظ به العمران والذاكرة من أثر لليهود في لبنان، لكن البلد هو من أكثر البلدان العربية رغبة في «البتر» مع تاريخ كانت فيه بيروت مدينة تتسع لليهود كما المسلمين كما المسيحيين.
كذلك، وعلى الرغم من إكثار الحديث عن التضاد بين النموذجين التعايشي اللبناني والاقتلاعي الإسرائيلي إلا أن فتح المجال للدراسة المقارنة التاريخية النقدية بين تطور الكيانين، المتقاربين في الحجم، بقي أمرا غير المرغوب في الخوض فيه بمنهجية وجدية. فقط كغنائية بليدة. النموذج التعايشي للدولة الطائفية اللبنانية «العبقرية» في مقابل نموذج الدولة «القومية الدينية» الإسرائيلية. رغم أن التشابه بين الحالتين غير قليل فيما يتعلق بالطابع الملي لقوانين الأحوال الشخصية. لهان الأمر لو كانت المقارنة بين لبنان وإسرائيل محظورة وكفى. المطروح هو فرض مقولة واحدة تحصر بها هذه المقارنة، من أن الدولة اللبنانية تعايشية، بين المسيحيين والمسلمين، في مقابل إسرائيل. هذا مع أن اختزال الأمر بهذا الشكل قائم على إقصاء العنصر اليهودي من التعددية اللبنانية، بدلا أن يجري الحرص على توكيده في مواجهة النموذج الإسرائيلي.
من المقولات الرائجة أيضا أن «لبنان آخر من يوقع» على سلام مع إسرائيل. وهي مقولة لا تريد الرفض بشكل مسبق وقاطع لاحتمال توقيع السلام، لكنها تطمئن الذات، بأنه آخر من يوقع. مشكلة هذه المقولة، أن معظم الدول العربية بين موقع، وشبه موقع. بالتالي آخر من يوقع ما عادت مقولة تحفظ تأجيل المسألة الى جيل مقبل مثلا.
ثم أن هذه المقولة تفترض «محدودية» في التسلل الإسرائيلي الى تناقضات الاجتماع اللبناني بدلا من الإقرار بأن الأمور كانت خلاف ذلك.
الواقع يفيد بالأحرى أن اللبنانيين ينقسمون جديا حول موضوع إسرائيل والصلح معها. المكابرة على ذلك لا تجدي.
الكلام الخشبي حول أن اللبنانيين عندهم رأي واحد حول إسرائيل ينفع مثله مثل الكلام حول جماليات العيش المشترك. في الوقت نفسه، مجتمع منقسم جديا ليس فقط حول إدارة الصراع مع إسرائيل بل حول النظرة الى إسرائيل نفسها، كيف يمكنه أن يتفاوض معها، أو لا يتفاوض، إن لم يكن قادرا على التفاوض بين جزء منه وجزء منه آخر. بالأخص حين يأتي الأمر من بعد هزيمة ومكابرة على الهزيمة يزيد الطين منها بلة أن تفاهم وقف إطلاق النار الذي أوقف حملة التدمير المنهجي قبل عام اشترط أن تقوم الدولة المهزومة بتفكيك التنظيم الميليشياوي المهزوم ثم جرى التخفف فيه من كل آلية غير فورية للرد الإسرائيلي بحيث تحول الى اتفاق وقف إطلاق نار من جانب واحد. في وضع كهذا، يجازف لبنان الرسمي بالتفاوض المطعم بديبلوماسي، في البين بين، ما بين المباشر وغير المباشر، لكن الحرص نفسه على كليشيهات «آخر من يوقع» والنموذج النقيض، بدلا من إدراج التجرتين الكيانتين في سياق كولونيالي مقارن قدر ما هو اختلافي، وتناقضي، إنما بدرجة أقل بكثير يفترض، من التلفيق الملحمي الغنائي الذي لم يعد ينفع.
كاتب من لبنان
