محمد عبدالسميع
قراءتنا لموسيقى الخليج العربي، يجب أن تنطلق من كونه منطقة جغرافية وتاريخية واحدة لها موروثها الفني والموسيقي، خصوصاً أنّ هناك ألواناً وإيقاعاً وأداءً حركياً وجُملاً مهمة أغنت هذه الموسيقى وإيقاعها وشعرها أو مادتها الغنائية، كما تمّ أنّ الموروث الموسيقي في الخليج هو شديد الارتباط بالبيئة الطبيعية، من البحر أو البرّ أو من خارج منطقة الخليج نفسها، كالموسيقى النوبية الأفريقية أو الصوفية. هذا ما تناولته جلسة حوارية مهمة عُقدت مؤخراً، قدّمها الموسيقي والفنان حسن الحجيري، مدير قسم الموسيقى في «مؤسسة الشارقة للفنون»، وكشفت عن أهمية الموسيقى الخليجية، وحضورها في المنطقة، وكونها متأثرة بما حولها جغرافياً وإنسانياً، ومن المهمّ تتبّع العناصر الجغرافية والتاريخية للآلات الموسيقية التي انتشرت في الخليج.
العودة إلى مضامين هذه الجلسة، التي تمّت الدعوة إليها من «مؤسسة الشارقة للفنون»، تأخذنا إلى دور الموسيقى كعامل محرّك في تحوّلات المجتمع عبر قراءة موضوع التطور الموسيقي كقوة تغيير اجتماعي في الخليج العربي، حيث تناولت الجلسة أهمية الموسيقى الخليجية وخصائصها الثقافية والتراثية وتعبيرها عن هوية المجتمعات الخليجية، وتشابه ثقافات الدول العربية عامّة، وانطباق هذه الثقافات تقريباً في منطقة الخليج، مع وجود خصوصيات لكلّ ثقافة في الموسيقى والتراث والألحان والكلمات بطبيعة الحال.

ألوان وفنون
ومن المهمّ، كما عرض الفنان الحجيري، النظر إلى عدد من الألوان الموسيقية العريقة والإنسانية ذات اللون البحري، مثل فنون النوبان أو الطنبورة، وغيرهما من هذه الفنون، كالألوان النوبية الأفريقية أو الصوفية، عند قراءة التأثر الخليجي بجوارهِ الجغرافي أو العالمي. كما أنّ منطقة الخليج لها ثقافة موسيقية ذات جذور وإيقاعات صمدت أمام الموسيقى الغربية، وفي الوقت ذاته هي ثقافة منفتحة أخذت عن الموسيقى العربية والغربية معاً، فكانت الألوان حاضرة في كلّ هذا التنوع المفيد.
وأفادت الجلسة حضورها بأنّ الفنّ الصوتي الخليجي اشتمل على كلٍّ من الحداثة والتقنيات والأساليب المميزة واللافتة للقراءة، خصوصاً في قراءة الفنان الحجيري موسيقى دول الخليج بشكل تفصيلي، وحديثه عن ألوان عديدة وفنانين من الخليج سجّلوا أغانيهم مبكراً في مومباي وبغداد ومصر، مثل الفنان عبداللطيف الكويتي، ومحمود الكويتي، ومحمد بن فارس، والفنان عبدالله الفرج.. وغيرهم من الفنانين.
كما كانت الألوان الموسيقية الخليجية حاضرةً، ومن المهمّ قراءة جذورها التراثية العريقة، كاهتمام بالهوية المحليّة وتجديد مشاريع الثقافة الفنيّة، وفتح آفاق جديدة للتعبير والتأثير الاجتماعي.
ولذلك فقد كانت الجلسة الحوارية تؤكّد أهميّة تلاقي الثقافات بهذا الانسجام وكلّ هذا الأخذ والعطاء، لهذا كانت هناك مدرسة خليجية متطورة وأصبحت بالتأكيد جزءاً من الهوية.
موسيقى المكان
ومن واقع الجلسة، تتأكد أهميّة العودة إلى دراسات موجودة أصلاً تقرأ الإنسان والثقافات والفنون والموسيقى، وكذلك الموقع الجغرافي، باعتبار كلّ ذلك كيانات معقّدة تتأثر وتؤثّر بالموسيقى التي تنطلق منها، كمكان وجغرافيا، كما في أغاني القرى والفلاحين والأنشطة التي تمليها الجغرافيا على الناس، وبالتالي فقد كانت الموسيقى والأغاني والأهازيج نابعةً من هذه الجغرافيات، كسواحل البحر على سبيل المثال.
وجاءت مقاربة الفنان الحجيري مفيدةً، كما في مقاربته بين أغانٍ وألوان تراثية خليجية وفنون أجنبية، إذ قرأ أغاني النهمة وأوبرا الهولندي الطائر لريتشارد فاغنر، وأغاني البحر.. وغير ذلك من أعلام الموسيقى والسيمفونيات العالمية.

فنون بحرية
وكانت الألوان الغنائيّة التراثيّة حاضرة، مثل فنّ «النهمة»، كغناء ملازم للعمل في السفينة، وباعتباره فناً بحرياً أصيلاً كان يقوله البحارة في دول الخليج العربي، وجاء على أنواع منه اليامال والخطفة والمداوى والفجري، والأغاني الشعبية الخفيفة، والزهيري والموال، والتسميات العديدة في هذا المجال.
كما تنافذت مقاربات الجلسة على تعريف وقراءة لفنون معينة من النهمات، مثل «اليامال»، كنوع من الغناء يختص بالسّرد الإلقائي على ظهر السفينة وخارجها، ويحمل معنى التأسّف والتلهّف والحزن، وكذلك فنّ «الخطفة» على سبيل المثال بأنواعها، حيث الأشرعة، وما هو لافت من هذه المؤثّثات الرائعة واللافتة للسفينة، حيث التصفيق باليدين والإيقاع والغناء وهزّ الأكتاف وحركة الرؤوس والأرجل.
وفي كلّ تلك الطقوس، كان اهتمام الجلسة النقاسيّة بأنّ البحارة هم أساس هذه الأغاني، وكلها ألوان لافتة، وتدعو إلى أن نقرأها مرة ثانية، باعتبارها أغاني تواكب سير العمل في السفينة وأخرى ترويحية.
إصدار مهم
وتناولت الجلسة النقاشية، عدداً من الكتب المهمّة، كما في حديث الفنان الحجيري عن الموسيقى البحرينية، مثل كتاب «الموسيقى في البحرين»، لمؤلفه بول روفسنغ أولسن، وصدوره عن شخصية موسيقية علمية، حول فن شعبي غنائي بحري أصيل في منطقة الخليج العربي، اشتُهر به الغواصون في رحلات بحثهم عن اللؤلؤ، كفنٍّ يعكس حياة البحّارة ومعاناتهم وآلامهم وآمالهم، ويُؤدَّى عادةً في مجموعات أو فرق لها قائد، وقد تمّ إدراجه ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو.
وجاء الحديث عن خصائص وميزات فن «الفجري»، كأقدم الفنون البحرية وأكثرها شهرةً خلال موسم الغوص أو بعد انتهائه، وعن الآلات الموسيقية، مثل آلة «الفجيري» أو «الجحل» الفخارية، بالإضافة إلى الطبلة في بعض الأشكال، ليكون كلّ ذلك مُشتملاً على أغراض مواضيع طول الغياب ومخاطر الرحلة والفرح بلقاء الأهل ومعاناة البحّار، وفي أشكال عديدة، مثل «العدساني»، «الحدادي»، «المخولفي»، و«الحساوي». خصوصاً أنّ فنّ «الفجري» هو أوّل ملفّ تقدمت به مملكة البحرين بشكل منفرد لصون التراث، لتوعية المجتمع بأهميه هذا التراث الفريد، واللافت في الجلسة النقاشيّة الحديث عن الفنان الموسيقي البحريني «مجيد مرهون» المولود سنة 1945، وتأسيسه فرقة موسيقية في الستينات، واهتمامه بالموسيقى والأنغام ورحلته مع «الأكورديون»، و«الترومبيت»، والفرقة الموسيقية التي أسّسها، وكذلك «الساكسفون»، وانضمامه لفرقة «الأنوار»، وعزفه على آلة «الجيتار»، وفرقة «فرسان العرب»، واهتمامه بالموسيقى الغربية في ذلك.

حماية الموروث
ولكلّ ما تقدّم، فقد خلصت الجلسة إلى أنّ الآلات الموسيقية في منطقة الخليج العربي ترتبط بفنونها ومجتمعها، وكان لها وظائف حياتية وظروف معينة، كما في مناسبات اجتماعيه للأفراح والزواج والشفاء وعودة الناس من السفر والنذر، وغير ذلك، ووظائف للعمل، مثل العمل في الغوص واللؤلؤ والزراعة وقطع الصخور، إضافةً إلى وجود أغانٍ للأطفال والألعاب.
فبالتأكيد، ومن الموقع الاستراتيجي للخليج العربي، كانت هناك تأثيرات من الجزيرة العربية وبلاد الرافدين وسواحل فارس، ومن الجنوب، أي من الهند وأفريقيا، فالخليج تمتزج فيه جنسيات ولغات ولهجات متعددة، إضافةً إلى أنّ الفنون الشعبية في الخليج قديمة قدم الإنسان على هذه الأرض.
ولذلك، فعلينا البحث في مدى تأثير التطور الاجتماعي والاقتصادي والأضرار السلبية في موضوع تهديد الموروث الموسيقي الشعبي، على الرغم من قوته وصموده في العديد من المواقع، لما للموسيقى الخليجية من تأثير قوي على الإنسان، حتى مع انحسار العديد من المهن والحِرف وانحسار ما صاحبها من طقوس، إذ ظلّت فنون الموسيقى باقية، وتدعو إلى ضرورة المسارعة إلى حفظها وتأطيرها.
