في كل إصدار جديد يضيفه عبد اللطيف اللعبي (1942) إلى مشروعه الشعري الطويل، تتقدّم تجربته خطوة أخرى نحو ترسيخ المزاج الكتابي الذي جمع منذ بداياته بين الوعي التاريخي والرهان الإنساني. ومع صدور المجلد الثالث الرسمي من أعماله الشعرية الكاملة باللغة الفرنسية عن دار سيروكو بالدار البيضاء، تتضح ملامح مرحلة شعرية متأخّرة تمتد من 2018 إلى 2024؛ وهي سنوات كتب فيها الشاعر، الذي يعيش اليوم في عقده الثامن، نصوصاً تُوازِن بين صفاءِ الصوت الداخلي وحدّة الأسئلة التي ظلّت ملازمة مسارَه منذ ستينيات القرن الماضي.
يستكمل هذا المجلد مشروعاً بدأ بجمع قصائد السجن وما تلاها، ثم نصوص التسعينيات وبداية الألفية. وفق ما يشير إليه الكاتب والناقد جاك أليساندرا، أحد أبرز الخبراء في أعمال اللعبي، في مقدمة الإصدار الجديد، فإن المشروع يقدّم صورة متكاملة لمسيرة الشاعر؛ الجزء الأول يجمع قصائد التألق والانغلاق وخيبة الأمل (1965–1993)، والجزء الثاني يغطي قصائد إعادة اكتشاف الذات والانتقال إلى بداية جديدة (1996–2016)، أما المجلد الثالث، فيضمّ المجموعات الخمس الأخيرة (2018–2024)، “تلك التي تفرض في نفس واحد التعلق بالحاضر الأكثر عبوراً والولاء للماضي الأكثر صموداً”.
حسب جاك أليساندرا، فإن هذا العمل الشامل، المكوّن من أربعة وعشرين عملاً في أكثر من ألفي صفحة، هو “درب من الذاكرة، بصمة تحمل بلا شكّ صوت إنسان وعالمٍ تلتقي فيه أجمل صور الحياة مع أسوأها”، مشيراً إلى أنّ أسلوب اللعبي ولغته لا هوية لهما سوى إنسانيته في البقاء وفي مواجهة البربرية ورغبته في الوجود على الأرض.
أسلوب اللعبي ولغته لا هوية لهما سوى إنسانيته في البقاء وفي مواجهة البربرية
تتميّز قصائد هذا المجلد بوضوح نظرتها إلى العالم، وبنزعة إنسانية متجذّرة في تاريخ الكاتب الممتدّ في الدفاع عن الحرية وكرامة الإنسان. ومع أنّ اللعبي يصرّ، حسب تصريح صحافي سابق له، على أنّ الشاعر “مُرافق” أكثر منه خطيباً، فإن النصوص تحمل أثر هذا القرب، أسئلة لا تريد اليقين ومحبة دقيقة للحياة وقدرة على إضاءة ما يظلّ هامشياً أو منسيّاً. وتبدو السخرية الذاتية التي ظهرت في كتاباته الأخيرة جزءاً من الحكمة التي يكتسبها الشاعر كلما تقدّم في التجربة.
يبرز أليساندرا أنّ شعر اللعبي، في جوهره، يظلّ مكاناً لاستعادة الإنسانية، وفرحة الحياة، والأمل في إمكانياتها اللامتناهية، من دون تهوين المآسي أو التجاهل، وسبيلاً لإلغاء حدود المستحيل.
بالإضافة إلى الأعمال الشعرية بالفرنسية، يواصل اللعبي نشر أعماله الأدبية الكاملة بالعربية بعد مراجعتها، شعراً ورسائل ومسرحاً، مستعيداً بذلك الخيط الخفي الذي يربط تجربته الأولى بالعربية بما كتبه لاحقاً بالفرنسية، وجاعلاً من الثنائية اللغوية رصيداً حقيقيّاً.
بهذا الإصدار، يقدّم عبد اللطيف اللعبي، برؤية أليساندرا التحليلية، تجربة شعرية متكاملة تقرأ اليوم بوصفها شهادة حيّة على أكثر من ستة عقود من الكتابة في مواجهة العالم، وممارسة متواصلة لإعادة اكتشاف الإنسان في أعماق ذاته، وفي علاقته الدائمة بالعالم.
