“الست”.. ليسَ فيلماً عادياً من بطولة النجمة منى زكي نُحضِّرُه ونحنُ ملتصقونَ بـ “الجينز والتي شيرت”، بلْ هوَ استدعاءٌ لِـ “حفل سواريه” في حضرةِ  “الست  أم كلثوم ” سيدةِ الغناءِ العربيِّ. هذهِ الدعوةُ، أتتْ إليكمْ عبرَ عقودٍ، منْ سيدةٍ اعتادتْ أنْ تفرضَ حضورها وأثيرها على أجندةِ الشرقِ.

كي يكتملَ هذا الميثاقُ الفنيُّ، لا بدَّ أنْ نستحضرَ مهابةَ ذلكَ الطقسِ؛ ففي الأمسيةِ التي كانتْ فيها أناقةُ أم كلثومَ على المسرحِ، كانتْ تفرضُ على الحاضرينَ قاعدةً لا تُكسرُ، عليك أنْ تُجاري الرصانةَ أوْ تغادرْ!.

لذا، حينَ تدخلونَ لمشاهدةِ “سيدة الغناء العربي” في هذا الفيلم الذى كتبه السيناريست أحمد مراد وأخرجه مروان حامد، فلْيَكُنِ التأنُّقُ أوَّلَ فِعلِ وفاءِ لكمْ، وخاصةً جيلُ الألفيةِ الذي عشقَ فنَّها دونَ أنْ يعِشْ حقبتَها.

ارتدوا أبهى البدلاتِ والفساتينِ، وكأنكمْ ذاهبونَ لمُقابلةِ “الست” شخصياً لِتُشيِّدوا رابطكُم الشاعريَّ الأصيلَ معَ الأسطورة. هكذا، يظلُّ الفنُّ الرفيعُ مُتفرِّداً، يفرضُ على محبِّيهِ مهابةَ العَهدِ؛ فالإخلاصُ لِرصانةِ الأمسِ هوَ جوازُ حضورِنا في قصةِ كوكبِ الشرقِ، وفي كلِّ عملٍ يجسِّدُ حياتَها ومواقفَها.

قصةُ أم كلثومَ ليستْ سيرةً تُروى وحسب، بلْ هيَ قانونٌ جماليٌ يستحقُّ أنْ يعيشَ بينَنا وإلى الأبد. ففي زمنٍ باتتْ فيهِ الذاكرةُ مرهونةً بالصورةِ لا بالصوتِ، يأتي فيلمُ “الست” ليُقدِّمَ للأجيالِ الجديدةِ الذاكرةَ البصريَّةَ التي لمْ تُرَ منْ قبلُ؛ ناقلاً بذلكَ هيبةَ الماضي وعمقَهُ منْ قاعاتِ الأوبرا إلى الشاشاتِ العصريةِ.

إنَّ أعمالَها، بما فيها منْ فصاحةٍ وقيمةٍ أدبيةٍ وتلحينيةٍ عُليا، هيَ صَولجانُ التُّراثِ الذي يجبُ أنْ يُنقَلَ للأجيالِ القادمةِ كدليلٍ على أنَّ الفنَّ الحقيقيَّ يفرضُ شروطَهُ لا يتوسَّلُ قبولَهُ.

ولهذا السببِ تحديداً، كانَ علينا أنْ نُمارسَ طقسَ “السواريه” المُلزِمَ في قاعةِ العرضِ، كي لا يبقى ميثاقُها مجردَ ذكرياتٍ سمعيَّةٍ، بلْ ليتحوَّلَ إلى تقليدٍ متجدِّدٍ يُؤكِّدُ أنَّ صوتَ الشرقِ هوَ حقيقةٌ فنيَّةٌ دائمةٌ ترفضُ مغادرةَ الزمنِ.

وأياً كانتْ النتيجةُ النهائيةُ وحكمُ النقادِ والجمهورِ على رؤية الفيلم، فإنَّ هذهِ الطقوسَ تُثبِتُ أنَّ العشقَ ما زالَ قائماً، ويكفينا فخراً أننا ما زلنا منْ جمهورِ الستِّ الوفيِّ.

سيرةً ذاتيةً

“أغَداً ألقاكَ”، لم تكنْ مجردَ قصيدةٍ متفردةٍ صاغها ببراعةٍ الشاعرُ السودانيُّ الهادي آدم، ولا وعداً عابراً في قاموس أم كلثوم، بل كانت تأجيلاً مُقدَّساً لعشقٍ لا ينتهي، ووعداً أزلياً للأمة العربية بالعودة إلى محراب صوتها. هذا الوعدُ القديمُ يُطلُّ على جمهور دبي والإمارات يوم الخميس المقبل  الموافق 11 ديسمبر في صالات “ريل سينما”، وهذا ليسَ مُجرَّدَ موعدٍ سينمائيٍّ عابرٍ؛ بلْ هوَ استدعاءٌ واعٍ للذاكرةِ لنْ يتكرر.

هذا الاختيارُ الدقيقُ ليومِ الخميسِ، الذي كانَ بمثابةِ عاصمةِ الوجدانِ العربيِّ، يؤكِّدُ أنَّ صُنَّاعَ العملِ يُدركونَ أنَّ قصَّتها ليستْ سيرةً ذاتيةً وحسب، بلْ طقسٌ ثقافيٌّ يجبُ إحياؤُه.

ولإدراكِ عظمةِ هذهِ السلطةِ، التي بدأتْ في موعدِ الخميسِ الأولِ من كلِّ شهرٍ، يكفي أنْ نتذكَّرَ كيفَ كانتْ سلطةُ هذا الصَّوتِ تتفوَّقُ على سَطوةِ السياسةِ والاحتفالاتِ الكُبرى.

في أواخر أربعينات القرن الماضي، اضطرَّ المُنظِّمونَ لإلغاءِ حفلِ استقبالٍ كبيرٍ على شرفِ النجمةِ العالميةِ فيفيان لي، بطلةِ فيلم “ذهب مع الريح”، لأنَّ لا أحدَ من الشخصياتِ النافذةِ كانَ يمكنُ أنْ يتغيَّبَ عن حفلِ أم كلثومَ المقدَّس.

كانَ ذلكَ في الخميسِ الأولِ من الشهرِ، أي اليوم الذي اعتادت فيه أم كلثوم أن تغني أغنية من أغانيها التي كانت تسمعها الجماهير من المحيط إلى الخليج منقولة على الهواء مباشرة من إذاعة القاهرة.

وتفادياً لغضب الجمهور المصري، اضطرت السفارة البريطانية إلى أن تلغي حفلة فيفيان لي المقررة وتعتذر لها. لقدْ أثبتتْ تلكَ الحادثةُ، أنَّ أم كلثوم ليستْ فنَّانةً وحسب، بلْ هي السَّيِّدةُ المطلقةُ على الأجندةِ الوطنيةِ، وصوتُها هوَ القرارُ الذي يُتَّبعُ بلا مُناقشة.

إنَّ هذا التوقيتَ السينمائيَّ ليسَ مصادفةً عابرةً، بلْ هوَ توقيتٌ تاريخيٌ مُقدَّرٌ يُجيبُ عنْ سِرِّ خلودِها. فـديسمبر، الذي اختارَهُ صُنَّاعُ الفيلمِ ليكونَ موعدَ الولادةِ البصريةِ الجديدةِ للأسطورةِ، هوَ الشهرُ الذي يحملُ ذكرى ميلادِها الذي يُوافقُ الحادي والثلاثينَ من ديسمبر (31 ديسمبر 1898).

ويحلُّ هذا العامَ ذكراها المائةِ والسابعةِ والعشرينَ (127 عاماً). وهكذا، يُصبحُ عرضُ الفيلمِ في ديسمبر، ليسَ مجرَّدَ احتفاءٍ بفنانةٍ عظيمةٍ، بلْ تجديداً لِميثاقِها الفنيِّ والأدبي؛ إنهُ لحظةُ تجلٍّ ثقافيٍّ يُصادِفُ فيها الحاضرُ قَدَرَ الماضي، لتؤكِّدَ أنَّ أم كلثومَ هيَ قانونٌ ثقافيٌ راسخٌ لا يتغيَّرُ موضعُهُ في فلكِ الوجدانِ العربيِّ.

 صاحبة العصمة

لقد كانَ يومُ الخميسِ الأولِ من كلِّ شهرٍ توقيتاً مقدَّساً يُعيد ترتيب الوجود في البيت العربي، كان طقساً جماهيرياً تتوقف فيه حركة الحياة، وتتحول فيه المساحات الشخصية إلى محرابٍ صوتيٍ تتلقى فيه الأرواح ترياقها.

لم يكن الجلوس أمام صوتها استمتاعاً عادياً، بل كان حالةً من التجلّي. هذا الطقسُ لم يكنْ ليدومَ لولا مهابةِ شخصيةٍ فذةٍ تجلّتْ في انضباطِها الحديديِّ على المسرحِ. كانتْ تقفُ كشجرةِ الزيتونِ الراسخةِ، مُعلِّمةً كيفَ يكونُ الإتقانُ هوَ الشكلَ الأرقى للوفاءِ للفنِّ.

إنَّ أم كلثومَ لم تكنْ مجرَّدَ مطربة ذائعة الصيت، بل هيَ “صاحبةُ العِصمةِ”، وهو لقب ملكي تشريفي منحها إياه الملك فاروق الأول في حفل للنادي الأهلي عام 1944، بعد أن غنت أغنية “يا ليلة العيد آنستينا”.

لقدْ كانَ صوتُها بمثابةِ صَولجانٍ وُجِّهَ لإحياءِ كنوزِ اللغةِ، فرفضتْ الانحدارَ وارتقتْ بذوقِ الأمةِ إلى قممِ التراثِ الشعريِّ الأصيلِ.

ويُعدُّ هذا الأمرُ مصدرَ فخرٍ وعِزَّةٍ لكلِّ عربيٍّ؛ إذْ لمْ تكتفِ بالغناءِ العاطفيِّ، بلْ تغلغلتْ في صعابِ دواوينِ الشعرِ العربيِّ العريقِ.

لقدْ جعلتْ قصائدَ كـ “نهجِ البردةِ” لأميرِ الشعراءِ أحمد شوقي، ومقاطعَ “رباعياتِ الخيامِ” المترجمةِ، تتردَّدُ على ألسنةِ الجماهيرِ العريضةِ في كلِّ بقعةٍ. بوقارِها، حولتْ الاستماعَ إليها إلى تجربةٍ ثقافيةٍ تتطلبُ الاحترامَ والالتزامَ بالأصالةِ العربيةِ، مُعلنةً أنَّ الإبداعَ الحقيقيَّ يكمنُ في إثراءِ التراثِ لا في هجرانِه.

لقد كانَ صوتُ أم كلثومَ مشروعاً وحدوياً لا يُخترقُ. ففي زمنٍ كانتْ فيهِ الساحةُ العربيةُ تعجُّ بالخلافاتِ، كانَ صوتُها هوَ الخيمةُ الوحيدةُ التي اجتمعَ تحتَها الجميعُ. وبعدَ نكسةِ 1967، تحوَّلتْ إلى مُحارِبةٍ في خندقِ التبرعاتِ الوطنيةِ؛ جابتْ عواصمَ العالمِ لتُغنيَ بدموعِها.

عمالقةِ الإبداعِ

وبموازاةِ هذا الدورِ القوميِّ، شكَّلتْ أم كلثومَ مدرسةً فنيَّةً فريدةً بتعاونها معَ أجيالٍ مُتتاليةٍ منْ عمالقةِ الإبداعِ؛ ابتدأتْ رحلتَها منْ جذورِ الطربِ الأصيلِ معَ الشيخِ أبو العِلا محمد، وتوَّجتْ مسيرتَها الرومانسيةَ بشاعرِها الخالدِ أحمد رامي.

وواصلتْ التجديدَ حتى نهايةِ مشوارِها معَ مُجدِّدينَ كـ سيد مكاوي. ويا لَلْفاجعةِ الفنيةِ، فقدْ كانتْ آخرُ أنفاسِ الإبداعِ تتجهُ نحو أغنيتِها “أوقاتي بتحلو معاك”، التي لمْ يسعفْها القدرُ بإهدائِها للجمهورِ، ليظلَّ هذا العملُ شاهداً على استمراريةِ ذوقِها الرفيعِ وعشقِها للتجديدِ حتى اللحظةِ الأخيرةِ.

لم تكنْ عظمةُ أم كلثومَ قاصرةً على حنجرتِها، بلْ تجلَّتْ ببراعةٍ في عبقريةِ الاختيارِ التي كانتْ بمثابةِ بوصلةٍ وجَّهتْ أنظارَ الشارعِ العربيِّ. لقدْ أعلتْ منْ شأنِ ظاهرةِ الملحنِ النجمِ والمؤلفِ الفذِّ، وكشفتْ عنْ كنوزِ الشِّعرِ والأدبِ العريقِ.

لكنْ القمةُ التي لا يُدانيها إنجازٌ، تكمنُ في قُدرتِها على تحويلِ التنافسِ الفنيِّ إلى إبداعٍ يخلُدُ في التاريخِ، حينما تعاونتْ معَ خصمِها اللدودِ، الفنانِ محمدِ عبدِ الوهابِ. هذا الأمرُ يُحسبُ لها وحدَها، فكانتْ ثمرةُ هذا اللقاءِ التاريخيِّ أغنيةُ “أنت عمري”.

كما أنارتْ الدربَ للمجدِّدِ بليغ حمدي، فلحَّنَ لها روائع خالدةً مثل “سيرة الحب” و”بعيد عنك” و”فات المعاد” و”الحب كله”.

ومعَ رياضِ السنباطيِّ، بلغتْ الأغنيةُ أقصى درجاتِ العُمقِ الكلاسيكيِّ في “الأطلال”، بينما أضاءَ لها محمد الموجي طريقَ التعبيرِ الشعبيِّ الرفيعِ في أعمالٍ كـ “فكروني”. هؤلاءِ العمالقةُ، تألَّقوا وتفرَّدوا معَها بجُملٍ موسيقيةٍ صعبةِ المنالِ والإدراكِ، لتُصبحَ كلُّ أغنيةٍ منْ أغنياتِها وثيقةً تاريخيةً.