لأربعة قرون، صمد مسرح “كابوكي” العريق كروح اليابان المتجسدة، لكنه وجد نفسه أخيراً يتراجع إلى الظل، يعاني بصمت من ويلات النسيان وقسوة الزمن.

في لحظة اليأس هذه،  هدد الاندثار التقاليد المُدرجة في قوائم “اليونسكو”، لم يكن المنقذ المنتظر خطة حكومية، بل كان تجسيداً فنياً مبهراً عبر  فيلم ملحمي يستغرق 3 ساعات، يروي صعود طفل يتيم من بيئة “ياكوزا” إلى قمة النجومية كأفضل مؤدي “أوناغاتا” (الأدوار النسائية الذكورية).

إن قصة “كيكو” (شخصية فيلم “كوكوهو”) ليست مجرد سيرة ذاتية سينمائية، بل هي حقنة حياة مباشرة في شرايين الفن المحتضر، ففي الوقت الذي كان فيه المسرح يغلق أبوابه أمام المتدربين، جاء هذا الفيلم ليحقق إيرادات غير مسبوقة تبلغ 111 مليون دولار، محولاً الخصومة الفنية المليئة بالصراعات إلى وقود للنهضة، أعاد هذا النجاح السينمائي إشعال شرارة “الكنز الوطني الحي”، وجعل الجيل الجديد يهرع لرؤية الجمال الذي يكمن في فن ظن الجميع أن مجده قد تلاشى.

فيلم “كوكوهو” هو ملحمة تاريخية  تغطي نصف قرن من حياة  شخصية خيالية  لممثل  ومؤدي  لفن  الكابوكي ، نرى من خلالها كيف يتراجع هذا الشكل الفني التقليدي ببطء من الثقافة الشعبية اليابانية.

فهذا “الفن الذي ساد يوماً كشغف وطني، رغم ميله للطبقة الوسطى، وجد نفسه ينحسر ليغدو تخصصاً محدوداً، يحييه جيل من الفنانين المسنين الذين يبدون وكأنهم مجمدون فنياً في غياهب الماضي.

والجدير بالذكر ان مسرح “كابوكي” يواجه صعوبات في اليابان، هذا المسرح الكلاسيكي الذي يبلغ عمره 400 عام والمُدرج في قائمة “اليونسكو” يكافح لجذب الجمهور.

تُظهر البيانات التي شاركها “مجلس الفنون الياباني” انخفاضاً كبيراً في نسبة الحضور في مسارح “المسرح الوطني” (National Theatre)، ولم تعد هذه النسبة إلى مستويات ما قبل الجائحة.

كما يفشل “كابوكي” في جذب المتدربين، الذين يمثلون الطريق الفعلي لمتابعة مهنة في هذا الفن،تاريخياً، أنتجت سلالات الممثلين أعداداً  من الفنانين، ولكن في العقود الأخيرة تدخلت الدولة لسد هذه الفجوة.

فقد درّبت دورات “مدرسة تدريب المسرح الوطني” ثلث فناني الكابوكي العاملين اليوم، لكن المدرسة لم تستقبل سوى متقدمين اثنين فقط لأحدث دورة تمثيل مدتها سنتان!!

الفيلم، المقتبس من الرواية الأكثر مبيعاً التي تحمل الاسم نفسه للكاتب “شويتشي يوشيدا”، والذي أخرجه “لي سانغ-إيل” (مخرج “باتشينكو”) وبطولة “ريو يوشيزاوا”، أسر الجماهير بعد عرضه الأول في “مهرجان كان السينمائي” في مايوالماضي.

و في اليابان، عُرض الفيلم في دور السينما لمدة 6 أشهر وحقق إيرادات بلغت 111 مليون دولار، ليصبح الفيلم الياباني الحي الأعلى دخلاً على الإطلاق، ويسهم فيما يُعد بالفعل أفضل عام للبلاد في شباك التذاكر منذ عام 2019.

وعلى الساحة الدولية، يكتسب الفيلم زخماً كبيراً، حيث تم اختياره لتمثيل اليابان في ترشيحات جوائز “الأوسكار” لفئة أفضل فيلم دولي.

وقد عُرض الفيلم مؤخراً في دور السينما الأمريكية في عروض محدودة مخصصة للتأهل للجوائز، ويُخطط لإطلاقه على نطاق واسع في الولايات المتحدة في أوائل عام 2026.

تتولى توزيع الفيلم هناك شركة “جي كيدز”، وهي الشركة نفسها التي قادت فيلم استوديو “جيبلي”، “الفتى ومالك الحزين”، إلى النجاح في جوائز الأوسكار عام 2024.”

أصبح الفيلم حديث الساعة بين فناني “كابوكي” في “طوكيو”، وفقاً للتقارير المحلية، والأهم من ذلك، أنه قد يجذب الناس إلى هذا الفن المسرحي.

وقال متحدث باسم “مجلس الفنون الياباني”: “على الرغم من عدم وجود بيانات واضحة تظهر تأثير الفيلم بشكل قاطع، إلا أننا نشعر أن الاهتمام بالكابوكي يتزايد، خاصة بين الجماهير الشابة”.

وأضاف مجلس الفنون أن 2200 شخص تقدموا بطلب للحصول على 100 مقعد عندما ظهر فنان الكابوكي “ناكامورا غانغيرو الرابع” (الذي يظهر في الفيلم ودرّب الممثلين الآخرين على أدائهم) في “المسرح الوطني” إلى جانب المخرج “لي” في سبتمبر 2025 .

وسعياً لاستغلال هذه اللحظة، قام مجلس الفنون بتوزيع منشورات لبرنامجه لشهر يناير 2026 خارج دور السينما التي تعرض الفيلم، وأطلق حملة مرتبطة به على وسائل التواصل الاجتماعي، وقدم عروضاً تمهيدية لتحف “كابوكي” الفنية بتذاكر بأسعار معقولة لتشجيع الوافدين الجدد.

وقال “لي” عبر مترجم إنه “فوجئ جداً” بـ “ظاهرة” فيلمه، وبما حققه لفن “كابوكي” في اليابان.

وأضاف: “أعتقد أن جزءاً من سبب ذلك هو وجود طلب عام على الأشياء الجميلة”. “ليس هذا فحسب، بل إن رؤية أشخاص مثل (يوشيزاوا) يتجاوزون حدودهم لتحقيق شيء ما يجلب الكثير من الفرح. وجمالية ذلك، في رأيي، هي شيء مشترك بين الأفلام و “الكابوكي”.

 والجدير بالذكر ان  كلمة “كوكوهو” تُترجم  إلى “الكنز الوطني”، في إشارة إلى “نينغين كوكوهو”، أو “الكنز الوطني الحي”، وهو لقب يُمنح لأساتذة فنون اليابانية المسرحية .

يُفتتح الفيلم في ستينيات القرن الماضي ويتبع الابن اليتيم لزعيم “ياكوزا”، ويدعى “كيكو”، في رحلته نحو المستويات العليا في مسرح “كابوكي”.

في سن الــــ 15 ، كان كبيراً في السن بالنسبة للمتدرب (حتى اليوم، يفرض مجلس الفنون الياباني حداً أقصى للسن يبلغ 23 عاماً)؛ لكنه حصل على وصاية المحترف المتمرس “هانجيرو” (الذي يمثله “كين واتانابي”)، وتنافس مع “شون سوكي” (الذي يمثله “ريوسي يوكوهاما”)، ابن “هانجيرو”، مما حفزه على المضي قدماً.

يؤدي “كيكو” دور “أوناغاتا”  وهو ممثل ذكر متخصص في الأدوار النسائية ،وهي عادة بدأت في القرنا الـــ 17 ، يأتي هذا الدور مع متطلباته الخاصة، بما في ذلك وضعية الوقوف، والمشي، وحركات الرقص.

“يوشيزاوا”، المعروف بدوره المزدوج في سلسلة أفلام “المملكة”، استعد لمدة عام ونصف لأداء دور “كيكو” البالغ.

وقال: “قضيت حوالي3إلى 4 أشهر فقط في ممارسة “سوري آشي” أو القدم المنزلقة، وهو جزء المشي في الكابوكي، وتعلم كيفية تحريك جسدي، وكيفية استخدام عضلات ساقي”. وأضاف: “بعد ذلك بدأ تدريب الرقص”.

وأضاف: “كلما مارست الرقص، زادت رؤيتي لمدى صعوبة الوصول إلى مستوى ممثلي الكابوكي الفعليين في هذا الوقت القصير، والمثابرة على ذلك – كان هذا هو المطلوب ذهنياً، بالنظر إلى الأمر”.

في الفيلم، يُلطف صعود “كيكو” السلس من شخص خارجي إلى النجومية بعلاقاته والغيرة التي يثيرها في الآخرين. لكن نقاط الاحتكاك هذه نادراً ما تتجاوز الدراما المتصاعدة على المسرح.

تختتم الملحمة في عام 2014، مع تقدم “يوشيزاوا” في السن، واضطرار “كيكو” لمواجهة الضرر والأذى الذي سببه في طريقه نحو العظمة.

بالنسبة للممثل، لم تكن حالة عادية لتمثيل دور متقدم في السن، وأوضح: “هناك فرق بين شخص يؤدي دور” الأوناغاتا” في الكابوكي وهو يتقدم في السن، مقابل رجل عادي يتقدم في السن”.

وأضاف: “لاحظت في المواد المرجعية أنهم يظلون شباباً وجميلين،ففي المقابلات التي رأيتها، يحافظون على وضعيتهم الرائعة”.

هناك الكثير من الأمثلة الواقعية لكهول مسرح الكابوكي الذين لا يزالون يمشون على الخشبة، ففي وقت سابق من هذا العام، قام “الكنز الوطني الحي” وممثل الأوناغاتا السابق “أونوي كيكوغورو السابع” بتقديم عرض وشارك في مراسم تغيير اسم رفيعة المستوى شملت ابنه وحفيده، ما يدعم مستقبل سلالة كابوكي شهيرة.