جدعون راتشمان

حصلت استراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب على مراجعات سلبية في أوروبا. ومع ذلك، فهي وثيقة مثيرة للاهتمام حقاً، خصوصاً أنها تسعى إلى تحقيق هدف طموح للغاية – وهو إعادة تعريف الأمن القومي من منظور حضاري.

وتتمحور النظرة التقليدية للأمن القومي حول الضرورات العسكرية والاقتصادية. وتتناول استراتيجية الأمن القومي الجديدة هذه القضايا بجدية، لكن هناك شعور بأن من وضعوها لم يكونوا مخلصين لها. ويؤكد مقطع يتناول قضية تايوان بشكل قاطع: «أن ردع الصراع على تايوان أولوية. وسنحافظ أيضاً على سياستنا المعلنة الراسخة بشأن تايوان». هذا هو التعريف الوارد في البيان.

وتصبح الوثيقة أكثر حيوية عندما تتناول القضايا الحضارية، لكن من الواضح أن هناك عنصراً عرقياً قوياً في تعريف الإدارة للحضارة، حيث يأتي على رأس الأولويات السياسية المدرجة «إنهاء الهجرة الجماعية». تصر استراتيجية الأمن القومي على: «وجوب حماية بلادنا من الغزو.. من الهجرة غير المقيدة».

ثم تمتد الفكرة عبر المحيط الأطلسي إلى أوروبا. وهنا يبرز ادعاء استراتيجية الأمن القومي المثير للجدل بأن أوروبا «تقف على شفا المحو الحضاري». وتقول الوثيقة إنه: «من المحتمل جداً أنه في غضون بضعة عقود على الأكثر، ستصبح أغلبية أعضاء الناتو من غير الأوروبيين».

ويبدو هذا الادعاء أشبه بما يطلق عليه علماء النفس أحياناً «الإسقاط»، فالواقع يقول: إن اتجاهات بيانات التعداد السكاني تشير إلى أن الولايات المتحدة هي التي ستصبح «أغلبية من غير البيض» بحلول عام 2045. ووفقاً للاتجاهات الحالية، سيستغرق الأمر عقوداً أخرى عدة قبل أن تتجاوز بريطانيا أو ألمانيا عتبة مماثلة. ومع ذلك، ولمنع «المحو الحضاري» في أوروبا، تقترح إدارة ترامب: «تعزيز المقاومة للمسار الحالي الذي تسلكه أوروبا داخل الدول الأوروبية». وهذا يعني بوضوح دعم الأحزاب القومية المناهضة للهجرة مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، والتجمع الوطني الفرنسي، وحزب الإصلاح البريطاني.

فمن أين جاء هذا التحول الحضاري في السياسة الخارجية الأمريكية؟ يعتقد أن المؤلف الأكثر تأثيراً في استراتيجية الأمن القومي هو مايكل أنطون، الذي كان حتى وقت قريب مديراً لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية. وكان أكبر اقتراب سابق لأنطون من الشهرة عند تأليفه مقالاً عام 2016 بعنوان «انتخابات الرحلة 93». وقد شدد أنطون في المقال على أن منع انتخاب هيلاري كلينتون كان مسألة بقاء للولايات المتحدة، التي كانت بحاجة إلى انتخاب ترامب لمنع «الاستيراد المستمر لأجانب العالم الثالث». كما قال في عام 2016 إن «التسامح مع الهجرة الجماعية علامة على حضارة تريد الموت». فهل يبدو الأمر مألوفاً؟

ولكن ما مدى الجدية التي يجب أن يعطيها الأوروبيون لكل هذا؟ هناك في العادة 3 طرق للنظر إلى استراتيجية الأمن القومي: الأولى هي أن معظم استراتيجيات الأمن القومي هي مجرد خدع لا معنى لها – مدروسة جيداً في مراكز الأبحاث لكن ليس لها علاقة كبيرة بالعالم الحقيقي. كما تسهل حقيقة أن أنطون نفسه قد غادر الإدارة الآن، وأن ترامب لا يعتبر مفكراً منهجياً، إمكانية تجاهل هذه اللغة باعتبارها مجرد حشو لمادة مثيرة لليمين الأمريكي المتطرف.

وهناك رأي آخر يرى أن هذا كله هو جزء من جهد أمريكي مكثف للضغط على الاتحاد الأوروبي للامتثال للقضايا التي تهم إدارة ترامب بالفعل، لا سيما إبرام اتفاقية سلام مع روسيا وإنهاء الجهود الأوروبية لتنظيم شركات التكنولوجيا الأمريكية.

خلال عطلة نهاية الأسبوع، نشر كريستوفر لاندو، نائب وزير الخارجية الأمريكي، منشوراً على وسائل التواصل الاجتماعي يتهم فيه حلفاء أمريكا الأوروبيين بـ«الانتحار الحضاري». وأشار لاندو إلى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على «التظاهر بأننا شركاء» مع دول الاتحاد الأوروبي التي تتبنى سياسات «معاكسة تماماً» للمصالح الأمريكية. وشملت السياسات التي ذكرها «الرقابة» المزعومة، بالإضافة إلى «التعصب المناخي».

ويبدو هذا تهديداً غير مبطن: إما سحب سياسات الاتحاد الأوروبي التي لا تحبذها إدارة ترامب، أو أن تعيد الولايات المتحدة النظر في دعمها لحلف الناتو. وقد تدعم اللغة المستخدمة في استراتيجية الأمن القومي، مقترنة بتهديدات لانداو، تفسيراً ثالثاً أكثر تطرفاً يتلخص في أن الإدارة الأمريكية لا تعترض على سياسات الاتحاد الأوروبي الفردية فحسب، بل على وجود الاتحاد نفسه، حيث يتم تصويره على أنه «مشروع عولمي معاد للمصالح الأمريكية».

وإذا استمر هذا النهج في التفكير حتى نهايته المنطقية، فقد يؤدي ذلك إلى انفصال الولايات المتحدة عن حلف الناتو، وتجنب الحكومات الأوروبية الحالية، والتقارب الدائم مع روسيا. ولذلك، أشاد المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفعل باستراتيجية الأمن القومي هذه، مشيراً إلى أنها تتماشى مع تفكير الكرملين. وقد استخدم الروس المقربون من بوتين منصة «إكس» – وهي منصة محظورة في روسيا – لتأييد ادعاء إدارة ترامب بأن حرية التعبير مهددة في أوروبا.

وهكذا، يتضح من استراتيجية الأمن القومي أن هناك الآن معركة جارية بين نسختين مختلفتين من الغرب، تضع الولايات المتحدة وأوروبا في مواجهة أحدهما الآخر، وتقوم رؤية إدارة ترامب لـ«الحضارة الغربية» على العرق والمسيحية والقومية. أما النسخة الأوروبية فهي رؤية ليبرالية تقوم على الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، بما في ذلك القانون الدولي.

إن أكبر التهديدات للنسخة الليبرالية من الحضارة الغربية في أوروبا تتمثل في الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تروج لها الولايات المتحدة وفي الدولة الروسية التي تتودد إليها إدارة ترامب. ولا عجب إذن أن يستشعر الكرملين في ذلك فرصة سانحة.