من دمشق إلى إدلب، ومن شوارع غازي عنتاب إلى برلين وستوكهولم، أحيا السوريون الذكرى الأولى لسقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد. ورغم المسافات الواسعة، توحّد المشهد في المدن والساحات: مسيرات حاشدة، أعلام سوريا الجديدة، وأناشيد ثورية رفعتها أياد فوق وجوه أنهكتها سنوات الحرب، لكنها استعادَت قدراً من الفرح الذي طال انتظاره.

بالنسبة لكثيرين، شكّل هذا اليوم لحظة تنفّس جماعي ونهاية فصل ثقيل امتد ستة عقود. لكن خلف ضجيج الاحتفالات، يظل الشعور قائماً بأن عاماً واحداً لا يكفي لتضميد جراح أكثر من 13 عاماً من الصراع، وأن ثمة حاجة لبذل جهود كبيرة، ربما تستغرق سنوات، من أجل إعادة البناء والمضي بنجاح نحو المستقبل.

وفي عامها الأوّل ما بعد سقوط نظام الأسد، شهدت سوريا وعوداً بالانفتاح، وإصلاحات أولية، وحراكاً سياسياً هدفه وضع أسس جديدة للحكم. غير أن الأسئلة الكبرى بقيت بلا إجابات حاسمة: هل تقترب سوريا فعلاً من بناء دولة العدالة والحرية؟ هل باتت ملفات الأمن وتثبيت المؤسسات وإطلاق اقتصاد فعّال أهدافاً قريبة المنال، أم أن هذه الطموحات ستظلّ مؤجلة بانتظار ظروف أكثر نضجاً؟

تقييمات متباينة

شكّل سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر 2024 حدثاً مفصلياً. سارعت السلطة الانتقالية إلى تشكيل حكومة مؤقتة، وإقرار إعلان دستوري، وتنظيم انتخابات برلمانية غير مباشرة. غير أن هذه الخطوات لم تلبّ توقّعات جزء من السوريين الذين انتظروا تغييراً أعمق.

منظمات حقوقية، بينها “هيومن رايتس ووتش“، انتقدت “مركزية القرار” في السلطة الجديدة، معتبرة أن الانتقال السياسي ما يزال شكلياً ولا يضمن استقلال المؤسسات.

في المقابل، يقول مؤيدو الحكومة الانتقالية إن البلاد حققت مكاسب مهمة، أبرزها الانفتاح الخارجي، رفع عقوبات، وإسقاط صفة الإرهاب عن “هيئة تحرير الشام”.

المدير التنفيذي في “مركز جسور للدراسات”، وائل علوان، يرى أن “سقوط نظام بشار الأسد شكّل منعطفاً حاسماً نقل سوريا، بعد سنوات طويلة من المعاناة، إلى مرحلة جديدة على مستوى التموضع الإقليمي والدولي”. ويؤكّد أن إعادة رسم العلاقات الخارجية “تعد اليوم إحدى أولويات السلطة السورية الجديدة، بعد أن عجز النظام السابق عن تحقيقها رغم الفرص التي منحت له خلال السنوات الماضية”.

ويضيف علوان في حديث لموقع “الحرة” إن النظام السابق “أعطي العديد من الفرص ليكون جزءاً من مشروع إعادة تفعيل العلاقات الخارجية وتخفيف العزلة السياسية”، إذ حظي بمحاولات تطبيع وانفتاح سياسي وتخفيف محدود للعقوبات “تشجيعاً له على تعديل مساره”، لكنه “لم يرد ولم يستطع أن ينخرط بجدية ضمن هذا المسار”.

وفيما يتعلّق بانتقادات “هيومن رايتس ووتش”، يرى علوان أن “المرحلة الانتقالية الحالية لا يمكن تقييمها بمعايير مثالية، لأن الحكومة تواجه تحدّيات داخلية وخارجية معقّدة، أهمها التدخلات الإسرائيلية واستمرار الأزمات الأمنية”.

ويعتبر أن مركزية السلطة “أحد إشكالات المرحلة، لكنها تستخدم، وفق مقاربة الحكومة، كأداة لضبط الانتقال السياسي وإدارة الملفات الأكثر حساسية”. ويشير إلى وجود آراء سورية نخبوية تدعو لاعتماد نظام سياسي أكثر مشاركة، كالبرلماني، أسوة بالدول الخارجة من النزاعات، “لكن السلطة ترى أن المركزية المؤقتة ضرورية قبل الانتقال التدريجي إلى اللامركزية، كما وعدت في المراحل المقبلة”.

من جانبه، يصف الباحث في مركز العربي لدراسات سوريا المعاصرة، نوار شعبان، العام الأول بالجيّد، مؤكداً أن “المسار السوري قطع شوطاً مهماً، لكن ما يزال أمامه الكثير لإنجازه على مختلف المستويات”.

ويشرح شعبان لموقع “الحرة” أن أيّ دولة تخرج من نزاع طويل “لا يمكن أن تقف على قدميها مباشرة”، مستدلاً بتجارب دول مثل البوسنة والهرسك والكونغو والعراق التي تبرز حجم التعقيدات التي تلي انتهاء الحروب. وفي الوقت ذاته، يشدد على أن “الدول الخارجة من النزاعات والمنهكة أصلاً لا تملك ترف تكرار الأخطاء، بل تحتاج إلى آليات واضحة وسياسات تمنع إعادة إنتاجها”.

في المقابل، يقدّم الكاتب والباحث عبد الله أمين الحلاق تقييماً أكثر حدّة، حيث يؤكد أن تقييمه لهذه المرحلة “لا ينفصل عن تقييم للقائمين على هذا الحكم اليوم ومنذ ما قبل ذلك السقوط”.

يقول الحلاق لموقع “الحرة”: “نحن أمام مجموعات إسلامية على رأسها هيئة تحرير الشام بماضيها المعروف للسوريين، وللعراقيين أيضاً، عندما كانت جزءاً من تنظيم داعش قبل أن تغيّر أسماءها وارتباطاتها الإقليمية. سلفية جهادية تحكم بلداً متنوعاً مثل سوريا بطوائف واثنيات مختلفة، وفق نموذج إسلامي متطرف، وبطريقة لا يمكن أن تحمل أي تقدم للبلد وحتى لضحايا الأسد نفسه”، كما يؤكد.

الصدع الأخطر

حذّرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، من أن المرحلة الانتقالية لا تزال هشة، خاصة مع تواتر أحداث عنف طائفي في الجنوب والساحل.

ويقول الحلاق إن “ثمة تورّط ودورة عنف وخصوصاً تجاه الأقليات، وبإشراف السلطة نفسها، وهذا ما أوردته هيومن رايتس ووتش بالقول: إن عجز السلطات السورية الحالية عن كبح جماح هذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها بشكل حقيقي، أو عدم رغبتها في ذلك، يقوّض الثقة في قدرتها على حفظ السلم والأمن وحماية الحقوق”.

ويشرح الحلاق “المقصود بالانتهاكات طبعاً تلك المجازر الفظيعة التي ارتكبت بحق العلويين والدروز، في مارس ويوليو الماضيين. نحن أمام جريمتين واضحتين، وطريقة تعامل السلطة معهما يشير إلى مسؤوليتها، وتغطيتها لهما، من خلال مُخرجات لجان التحقيق التي شكلتها وأيضاً من خلال طريقة تعاملها وتعامل رأس السلطة مع المجزرتين. الشرع نفسه شكر العشائر على الفزعات العشائرية ضد الدروز، وإن بشكل غير مباشر”.

وكانت أحداث العنف الطائفي في الساحل ومحافظة السويداء قد أدّت إلى مقتل وإصابة وتهجير الآلاف من العلويين والدروز.

من جانبه يعتبر علوان أن  الحكومة مطالبة بتقديم رسائل طمأنة واضحة للقوى المتنافسة لضمان انتقال التنافس من السلاح إلى السياسة، قائلاً: “حين تتكرس انتخابات حقيقية وتداول فعلي للسلطة، يصبح الاحتكام إلى السلاح محرّماً مجتمعياً، ويتكفله العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع”.

أما نائب مديرة الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش، آدم كوغل، فحذّر في تقرير المنظمة الصادر في 8 ديسمبر، من تضاؤل فرصة إرساء انتقال يحترم الحقوق، معتبراً أنه “لا يجب أن يتحوّل ارتياح العالم لانتهاء رعب حقبة الأسد إلى تفويض جديد للسلطات لارتكاب الانتهاكات”.

ورغم ذلك، يشير شعبان إلى جهود أمنية “قيد البناء”، “خصوصاً داخل وزارة الداخلية”، كما يشير إلى أن الخطاب السوري الجامع “شهد تعزيزاً ملحوظاً خلال الفترة الماضية، رغم بعض الإشكالات التي ظهرت”.

وفي السياق، شدد الشرع، خلال كلمة ألقاها الاثنين في قصر المؤتمرات بدمشق، على أن المصالحة تمثل “أساس استقرار الدولة وضماناً لعدم تكرار الانتهاكات، وحجر أساس لبناء الثقة بين المواطن والدولة”.

العدالة المؤجلة

أعلن رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا، في أغسطس الماضي، أن عدد الأشخاص الذين فُقدوا خلال عقود من حكم عائلة الأسد بما فيها فترة الحرب التي أعقبت الثورة قد يتجاوز 300 ألف شخص.

وقد أنشئت الهيئة في مايو الماضي، لمعالجة هذا الملف، لكن منظمات حقوقية، من بينها “هيومن رايتس ووتش” انتقدت حصر عملها بجرائم النظام السابق واستبعاد الانتهاكات التي ارتكبتها فصائل أخرى.

ورغم الانتقادات، قالت المستشارة الإعلامية للهيئة، زينة شهلا، لوكالة “رويترز” إن التفويض يشمل أيّ سوريّ مفقود، مهما كانت الظروف. وأضافت: “بالنسبة إلى ألم العائلات، ربما فعلاً نحن بطيئون، لكن هذا الملف يحتاج إلى السير فيه بتأن بطريقة علمية ومنهجية وليس بتسرع”، موضحة أن استخراج الرفات من المقابر الجماعية يتطلب خبرة فنية أكبر، وربما لن يتم قبل عام 2027.

ووفق وكالة “رويترز”، عبّرت ست منظمات حقوقية عن استيائها من النهج الحكومي، فيما يتهم النشطاء الهيئة “باحتكار” الوثائق المتعلقة بالاعتقالات.

يعتبر الحلاق أنه “لا توجد درجة أدنى من السعي الجدّي إلى العدالة في بلدنا”، لا بل، كما يقول، “نرى اليوم اقتصاديين وقادة ميليشيات متورطون بجرائم حرب ممن كانوا مع النظام السابق، قاموا بتسوية أوضاعهم وصار بعضهم يحمل خطاب “السلم الأهلي”، بالتزامن مع اعتقال آخرين، بشكل انتقائي، من أركان ذلك النظام”.

ويرى مراقبون أن كشف مصير المفقودين شرط أساسي لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وهو ما أكد عليه الشرع، خلال كلمته في قصر المؤتمرات، حيث تعهد بالالتزام “بمبدأ العدالة الانتقالية لضمان محاسبة كلّ من انتهك القانون وارتكب الجرائم بحق الشعب السوري، والحفاظ على حقوق الضحايا وإحقاق العدالة وحق الشعب في المعرفة والمساءلة والمحاسبة”.

انفتاح خارجي

تفتح سوريا مرحلة جديدة في علاقاتها الخارجية منذ تولّي الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية، إذ تعمل القيادة الجديدة على توسيع التواصل مع الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة والدول الخليجية، في إطار إعادة تموضع دبلوماسي شامل.

وأكد الشرع في حديث سابق لقناة “فوكس نيوز” أن زيارته إلى البيت الأبيض ولقاءه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في نوفمبر الماضي، يمثّلان “بداية جديدة لشراكة استراتيجية”، مشدداً على أن سوريا لم تعد مصدر تهديد لواشنطن، بل “حليف جيوسياسي” في ملفات المنطقة.

وخلال استقباله وفداً من أبناء دمشق، الأحد، اعتبر الشرع أن بلاده “حققت توازناً إقليمياً ودولياً غير مسبوق منذ قرن”. مشيراً إلى علاقات “جيدة” مع الولايات المتحدة وروسيا والصين.

وعلى الصعيد الإقليمي، وصف الشرع العلاقات مع السعودية وتركيا وقطر والإمارات بأنها “مثالية”، في حين اعتبر أن العلاقات مع مصر والعراق “مقبولة”.

وكان الشرع قد أوضح، في مقابلة سابقة مع قناة “الإخبارية السورية”، أن سقوط النظام السابق أسفر عن خروج “الأذرع الإيرانية” من المنطقة، ما أدّى إلى وضع العلاقات السورية–الإيرانية في “حالة من البرود”، مشدداً على أن سوريا “لا تريد أيّ توتر مع أيّ دولة”.

أزمة إنسانية مستمرة

قدّرت مفوضية اللاجئين عودة أكثر من 3 ملايين سوري منذ سقوط النظام، بينهم 1.2 مليون من الخارج. لكن 4.5 مليون لاجئ ما يزالون في دول الجوار، غالبيتهم يعيشون تحت خط الفقر.

ورغم تضخم الاحتياجات، لم يحظ نداء الأمم المتحدة لعام 2025 بشأن الوضع في سوريا، والبالغ 1.5 مليار دولار، سوى بتمويل لا يتجاوز 33%، ما يترك ملايين السوريين من دون مأوى ملائم أو خدمات أساسية أو دعم ضروري لمواجهة فصل الشتاء المقبل.

وفي هذا السياق، يشير علوان إلى أن الحكومة حاولت، خلال العام الماضي، تحسين الواقع المعيشي والخدماتي الصعب، إلا أن التحديات “هائلة”، ويقول إن الحكومة نجحت نسبياً في توظيف الانفتاح الخارجي لتحريك بعض الملفات الاقتصادية والخدمية، لكن “الطريق ما زال طويلاً ويتطلب جهداً ووقتاً أكبر بكثير”.

ويربط شعبان الأزمة الاقتصادية، بالعقوبات الدولية، لكنه يشدد على ضرورة الموازنة بين الحهود المبذولة لحل المسائل الداخلية والملفات الخارجية، و”العمل عليهما معاً لضمان الوصول إلى أرضية صلبة يمكن البناء عليها للانتقال إلى مرحلة أكثر استقراراً”.

من جانبه يرى علوان أن سوريا تمضي في مسار إنجاح العملية الانتقالية، إلا أن ذلك يبقى رهناً “برفع العقوبات، ووقف التدخلات التي تغذّي الفوضى، ومنح هذه العملية الفرصة الكاملة لتتحقق أهدافها”.