منذ طفولتي، كان حضور آلان مرعب جزءًا من ذاكرة الأغنية اللبنانية التي رافقتنا في البيت. رأيته أول مرة في التسعينات عبر برامج سيمون الأسمر على شاشة الـ LBC، حيث كان يغنّي بينما يحيط به الراقصون على إيقاع الهوارة والدبكة. كنت أتابع المشهد مأخوذة بالحيوية التي يخلقها على المسرح، فأرفع قدمي وأضرب الأرض كما لو أنني أشارك في الدبكة نفسها. 

مع مرور السنوات، بدأت ألاحظ وجوده في أعمال أحبّها دون أن أربط الخيوط مباشرة: في مسرحيات صباح التي رافقتنا بصوتها واندفاعها، وفي أعمال سلوى القطريب التي طالما شدّتني بصوتها وفنها. مع الوقت، أدركت أنّه حاضر في الشقّ الذي أحبّه أكثر من المسرح اللبناني، الشقّ الذي صاغه روميو لحود، والذي كان بالنسبة إليّ مدرسة قائمة بذاتها، بميله إلى الصورة الراقصة والأزياء الغنيّة والزجل اللبناني والهوية الشعبية.

بقي اسم “ملك الهوارة” يتردّد في ذاكرتي، لا كصفة جماهيرية، بل كلقب يعبّر عن فنان جمع بين موهبتين: راقصٌ أحب الدبكة على أصولها قبل أن يجعل صوته امتدادًا لها. لكن خلف هذه الصورة التي عرفناها من بعيد، كانت هناك حياة أغنى بكثير. شعرت أن ما نعرفه عنه خارج الخشبة غير مكتمل، وأنّ الرجل الذي تأثر بالشاعر الزجلي الراحل خليل روكز، وأتقن الارتجال والزجل، يستحق أن تُروى حكايته من الداخل.

وكان هذا ما حصل حين التقيت زوجته ومصممة الرقص، ناي لحود مرعب، التي فتحت لي باب منزلهما كما لو أنها تعيد فتح فصل كامل من حياته. وضعت أمامي صورًا وذكرايات لم أسمعها من قبل، وبدأت تستعيد تفاصيله الأولى: كيف حمل الرقص في جسده قبل أن يحمل الهوارة في صوته، وكيف شقّ مسيرته من هندسة الديكور إلى الخشبة.

هكذا بدأت ملامح الحكاية تتضح شيئًا فشيئًا، من المشاهد التي حفظتها في ذاكرتي، إلى ما اكتشفته عن حياته وشغفه حين سمعت القصة من ناي. خلف تلك الأدوار والرقصات والأغاني، كان هناك رجل عاش التراث بكل صدقه، ونقله إلى الخشبة بروح حيّة تركت أثرًا ما زال حاضرًا في المسرح والموسيقى اللبنانية.

البداية من مسرح روميو لحود 

نشأ آلان مرعب محاطًا بالغناء والدبكة اللبنانية، مفتونًا بالأغاني التراثية مثل الميجانا والعتابا، وكان يقضي ساعات طويلة مع خاله ليكتسب خبرة ويصقل حركاته. في عام 1968، قرر الانضمام إلى فرقة روميو لحود، وكان في العشرين من عمره ويدرس هندسة الديكور، ليجد نفسه وجهًا جديدًا بين الراقصين.

 سبقته أخته تونيا آلان في الانضمام إلى الفرقة بعام، فأخبرته بأن روميو يبحث عن وجوه جديدة. خلال لقائنا، ذكرت زوجته ناي لحود موقفًا حين أشار روميو إليه قائلاً إنه سيكون راقصًا متميزًا. ومع مرور السنة الثانية والثالثة، أصبح آلان عضوًا منتظمًا في الفرقة. 

في السبعينات، أسس روميو لحود مسرحه في فندق مارتينيز، وقدم خلاله مسرحيتين. جاءت الفرصة الحقيقية لآلان مع المسرحية الثانية “مين جوز مين”، حين صمّم أول رقصة له. كل ليلة، كان يقف على خشبة المسرح وسط ألحان المجوز، تتحرك قدماه بخفة ودقة، فتجذب الأنظار وتثير إعجاب الجمهور. لم يكن هناك غناء يرافق الرقصة، فكانت الموسيقى وحدها كافية لتسليط الضوء على مهارته، وتأكيد تميّزه عن باقي الراقصين، وكأن كل خطوة تحكي قصة من حبه للتراث والدبكة.

x

مصمم رقصات أشهر مسرحيات صباح وسلوى القطريب

في مطلع عام 1973، تغيّر المشهد داخل فرقة روميو لحود بعد انفصال روميو وصباح مهنيًا. واصلت صباح مسارها المسرحي منفردة، بينما بقي آلان إلى جانبها وشاركها تقديم عمل “الفنون جنون”. لم يلبث العام أن ينقضي حتى بدأ آلان مرحلة جديدة في مسيرته.

مع مطلع 1974، استعاد روميو مسرحًا في الأشرفية، هو مسرح الإليزيه، لتنطلق هناك مسرحية “سنكف سنكف”، التي شكّلت انطلاقة جورجينا رزق الفعلية، وكانت أيضًا البداية المسرحية لسلوى القطريب. في تلك الفترة، أسس آلان فرقته الخاصة وتولّى تصميم جميع رقصات العمل، مستعينًا بمجموعة من الراقصين والراقصات اختارهم بعناية ليجسد رؤيته الكوريغرافية.

واصل آلان تقديم عروضه في مختلف أنحاء الشرق الأوسط حتى عام 1982، وهو العام الذي قرر فيه التوقف عن الرقص نهائيًا ليتفرغ للكوريغرافيا. منذ ذلك الحين، حمل توقيعه عدد من المسرحيات التي قدّمها روميو لحود، بينها “ياسمين” عام 1980، و“سوبر ستار” عام 1982. 

كما ساهم في عروض “الليالي اللبنانية” التي قدّمت في مهرجانات جرش وبيبلوس عام 1987، وصولًا إلى “ليالي زمان” عام 1995. بهذه الطريقة، امتد أثره بعيدًا عن الخشبة، عبر تصميم حركات تحمل شيئًا من روحه الأولى، وتعيد سرد رحلته الفنية بأساليب مختلفة.

x

بداية المسيرة الغنائية 

كان آلان منهمكًا في تصميم أحد تابلوهات مسرحية “الليالي اللبنانية”، العمل الذي أراده روميو لحود احتفاءً بالهوية الشعبية بكل ما تحمله من زجل ورقص وغناء. خلال أحد المشاهد الطويلة المبنية على الزجل، تذكر روميو أن آلان دائمًا ما يغني في السهرات بين الأصدقاء والعائلة.فسأله روميو: “آلان، بدك تغنّي؟”، فتفاجأ آلان وأجاب مرتبكًا: “كيف يعني؟”، لكن روميو لم يترك له مجالًا للانسحاب. 

هكذا وقف على مسرح جرش عام 1987، وقدم غنائه أمام جمهور ضخم، لتصبح صوته جزءًا من المشهد الزجلي. بعد ذلك، أعادوا المشهد على خشبة مسرح جبيل، حيث شارك في تابلو زجلي مع سلوى القطريب وعبده ياغي، متبادلين الزجل بإيقاع متناغم، في مشهد أصبح علامة بارزة في “ليلة لبنانية”.

x

ملك الهوارة في التسعينيات 

لاحقًا، ظهر آلان على شاشة التلفزيون وقدم فقرات في برامج مثل “ليلة حظ”، من الدلعونا إلى الهوارة والميجانا. ظل محافظًا على غنائه للأنواع التراثية فقط، ساعيًا لاستعادة الآلات التراثية مثل المجوز والناي والربابة. كما أطلق خمس ألبومات خلال التسعينيات رسخت اسمه واكسبته لقب “ملك الهوارة”.

وتحكي لنا زوجته ناي أن ظهور آلان أعاد الأغاني التراثية إلى الواجهة، مع إبراز سرعة البديهة والارتجال والزجل، فأعاد بذلك روح المسرح إلى الأداء. كان يرفض أن يُصنّف كمطرب، وكان يرد على من يصفه بذلك قائلاً: “طلع كثير ناس عالمسرح بس نحن ملوك هوارة”. وتضيف ناي أن آلان كان يقدّر الارتجال في ألبوماته الأربعة وفي الأداء الحي، ولم يكن بالإمكان تسجيل الموسيقى ووضع صوته عليها فقط، وكانت الفرقة الموسيقية دائمًا حاضرة ليتمكن من الغناء والارتجال بشكل حي ومتفاعل.

x

لم يحقق آلان حلمه في تأسيس أكاديمية خاصة بالأغاني التراثية والدبكة، ليواصل نشر هذا الفن بشكل أوسع بين الأجيال، لكنه ترك أثره واضحًا في المسرح والموسيقى اللبنانية. تعرّض لحادث سيارة أدى إلى توقف قلبه مؤقتًا، لكن الوفاة جاءت بعد عدة أشهر بسبب تفشّي السرطان، بعد رحلة طويلة وشاقة مع المرض.

 رغم رحيله المبكر، بقيت بصماته حاضرة في كل رقصة، كل أغنية، وكل أداء حي، مجسدة شغفه بالتراث، ومهارته في الارتجال، وروحه التي أعادت للخشبة حياة وبهجة، لتستمر ذكراه في المسرح اللبناني وتلهم الأجيال التي أتت بعده.

*نشكر مصممة الرقص المختصة بالرقص الشرقي والدبكة ناي لحود مرعب على تعاونها وفتح أرشيفه الغني أمامنا، مما أتاح لنا التعرّف على رحلة آلان الفنية وتقديمها بهذه الصورة.