وودي ألن في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، 4 سبتمبر 2023 (فرانكو أوريليا/ Getty)

في “هانا وأخواتها” (Hannah and Her Sisters)، يستعير المخرج الأميركي وودي ألن (1935)، قول تولستوي: “المعرفة الوحيدة التي قد يكتسبها الإنسان عن الحياة هي أنّ لا معنى لها”. يشكل هذا القول جوهر فلسفته، في الحياة وفي السينما، إذ يستحيل فصل إحداهما عن الأخرى. هذه النزعة العدمية، تحوّلت إلى عالم سينمائي فريد، تتجول فيه شخصياته القلقة، باحثة بلا توقف عن معنى يعرف هو مسبقاً أنها لن تجده، ليباغتها وهي محملة بكل أثقال حياتها، جاهزة للانفجار تماماً أمام الكاميرا؛ شخصيات مأزومة غارقة في شكوكها، عاجزة، مثله، عن إدراك سلامها النفسي.

تتجلى فرادة وودي ألن في قدرته على تحويل سماته المميزة إلى ملامح فنية مكتملة. شخصيته العصابية، طريقته في الكلام، أسلوبه الساخر، وتردده الذي يلازمه مثل ظلّه. كلها أصبحت جزءاً من توقيعه الخاص الذي يمكن تمييزه من اللحظة الأولى. في السينما كما في الحياة، يطلّ ألن بالشخصية نفسها؛ رجل يثرثر كثيراً، يفكر بلا هوادة، يعاني وساوسَ قهرية، يزور معالجه النفسي باستمرار، ويتناول أسئلة الإيمان والحب بسخرية عابرة، كأنه يتحدث عن أخبار الطقس. حين سُئل عن فكرة الانتحار، قال ألن: “الفكرة تتبادر إلى ذهني… ليس بمعنى أنا حزين جداً لماذا لا أقتل نفسي؟ بل هي سؤال فلسفي: ما هدف الاستمرار؟ نعيش سنواتنا على الأرض، ولا نعرف لماذا نحن هنا… لا يمكنني أن أرى أي هدف لها”. وأضاف: “ها أنا أجهد لإنهاء فيلم جديد… سيراه الجمهور، سيحصل على بعض المتعة، ثم سينسى”. لكن، مع ذلك، تبقى صناعة الأفلام، بالنسبة إلى ألن، هي سبيل النجاة في عالمٍ قاس ليس للحياة فيه أي معنى.

هل ألن كوميدي؟ نعم، ولكن، من منطقة لا يصلها الضوء كثيراً، حيث الواقع دائماً غير مُرضٍ، والزيجة الحالية غير مقنعة، والحب المستحيل أو غير المتاح هو الأكثر جاذبية، وحتى الزمن الذي نعيش فيه لا يلبي حقاً ما نطمح إليه.

المرأة ركيزة أساسية في سينما ألن؛ فهي معقدة ومتناقضة، تمثل الرغبة والحياة والهلاك في آن، وتثير دائماً فضولاً وارتباكاً متبادلين. سواء كن هادئات، منطويات، متمردات، هيستيريات أو عصابيات، ألن مخلص لشخصياته النسائية، لكنه في الوقت نفسه متردّد وخائف، تتقاطع مشاكله الوجودية مع قدرته على التواصل معهنّ بسلاسة. ومع ذلك، لا يفشل في إثارة إعجابهن، لأنه يلتقط في كل واحدة منهن انعكاساً لجزء من ذاته المضطربة.

ولد وودي ألن عام 1935 في بروكلين (نيويورك). منذ صغره، كان يهرب من حرارة الصيف إلى صالات السينما المكيفة، يتابع بشغف كل فيلم يُعرض، قبل أن يدرك أن ميوله الحقيقية ستقوده أولاً إلى حب الكوميديا الرومانسية، ثم إلى السينما نفسها. منذ سن مبكرة، بدأ عروضه الكوميدية على خشبات مسارح صغيرة وفي حانات نيويورك. بسرعة، أثبت قدرته على ابتكار لغة كوميدية خاصة به، قبل أن تقوده كتاباته إلى الشاشة الكبيرة، بوصفها مساحة أوسع لتجسيد هواجسه الفكرية والعاطفية، ويبدأ مسيرته في صناعة الأفلام في أواخر الستينيات بفيلم “خذ المال واهرب” (Take the Money and Run). شهدت السبعينيات ذروة انطلاقته الإبداعية، فقدّم خلالها أفلاماً مثل “مانهاتن” (Manhattan): رسالته الكلاسيكية المليئة بالحب والكراهية إلى نيويورك، مدينته الأثيرة وبطلة الكثير من أفلامه، و”آني هول” (Annie Hall)، الذي يراه ألن نقطة تحول في مسيرته، إذ يقول: “كانت لدي الشجاعة لأهجر فكاهة وأمان الكوميديا التهريجية تماماً. قلت لنفسي سأحاول صنع فيلم عميق، لن يكون مضحكاً بالطريقة نفسها، وقد تظهر فيه بعض القيم الأخرى. سيكون هذا مثيراً لاهتمام المشاهدين، وسارت الأمور على ما يرام”. لم تكن هذه الأفلام مجرد كوميديا رومانسية، بل بورتريهاً جديداً للمدينة التي لا تنام في ظل الثقافة المعاصرة، وقراءة نقدية لزمن يراجع قيمه ويعيد تعريف علاقاته الإنسانية.

وودي ألن وديان كيتون في “آني هول”، 1 يناير 1977 (Getty)

لاحقاً، اتجهت أعماله إلى مساحات أقتم، إذ ازدادت العلاقات بين شخصياته تعقيداً وعنفاً. في أفلام مثل “جرائم وجنح” (Crimes and Misdemeanors)، و”أزواج وزوجات” (Husbands and Wives)، طرح أسئلة حول الأخلاق والذنب والمسارات الخاطئة، مبتعداً عن بهرجة هوليوود البصرية، ليصنع سينما تشبهه، معتمدةً على حواراته الذكية وأسلوبه الخاص في السرد، وتستكشف طبقات نفسية معقدة.

مع مطلع الألفية الجديدة، أصبح أقل ظهوراً أمام الكاميرا. وبينما كانت هوليوود تبتعد عنه، اتجه إلى فضاءات أوسع؛ فأنجز أعمالاً في لندن وبرشلونة وروما وباريس، لكنه ظلّ يحمل نيويورك معه في كل لقطة. لهذا، بدت أفلامه الأوروبية كأنها محاولة لترجمة قلقه إلى لغة أخرى. ولعل فيلم “نقطة المباراة” (Match Point)، كان محطة مهمة في هذه المرحلة الجديدة من مسيرته الفنية، إذ تتقاطع لعبة الحظ والقدر في واحد من أقسى أفلامه وأكثرها تعبيراً عن رؤيته العبثية للحياة. في هذه المرحلة، ولد أحد أبرز أعماله الحديثة وأكثرها جماهيرية “منتصف الليل في باريس” (Midnight in Paris)، فيلمه الذي يحتفي بالنوستالجيا ويوجه تحية إلى الأدباء والفنانين الذين شكّلوا ملامح باريس في عشرينيات القرن الماضي.

وودي آلن في موقع تصوير فيلمه “خذ المال واهرب”، 1 يناير 1969 (Getty)

مهما تبدّلت المدن، فإن صوت وودي ألن مؤلِّفاً واضح أياً كان ما يرويه، لذلك نشعر في أعماله بأن كل فيلم يضيف طبقة جديدة إلى أسئلته التي لم يجد لها جواباً، فالمسار ينتهي دائماً في المنطقة ذاتها التي تشغله؛ ما يسميه هو “العالم الذي لن يشعر فيه بالراحة أبداً ولن يفهمه، ولن يوافق عليه أو يغفر له أبداً”.

بعد مسيرة سينمائية حافلة، ما زال وودي ألن متمرداً على كل شيء ومتمسكاً بحسه الفكاهي اللاذع ونقده الاجتماعي الحاد. المخرج الشهير الذي أتم عامه التسعين في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لا يفكر في التقاعد أو الاسترخاء في جزيرة نائية، بل يستعد لحزم حقائبه إلى مدريد والتحضير لفيلمه الجديد.