لم يولد نجيب محفوظ فى بيت مثقف بالمعنى التقليدى للكلمة، لكنه نشأ فى بيئة غنية بثقافة من نوع آخر؛ ثقافة تفيض بالحكايات، والموروث الشعبى، والروح الدينية المصرية المتسامحة، ومن تلك الطفولة، تحديدا من حضن الأم، بدأ يتكوّن الوعى الأول للكاتب الذى سيصبح بعد عقود أحد أهم روائيى العالم.
الأم.. مخزن الثقافة الأول
كان نجيب محفوظ يقول دائمًا إن علاقته بأمه “الست فاطمة” كانت أوثق من علاقته بوالده، فالأب كان كثير الغياب بحكم عمله، بينما كانت الأم ملازمة له، تحيطه بعالم من القصص والمشاهد اليومية التى زرعت فى داخله حسًّا فنيًا مبكرًا.
ورغم أنها كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب، فإن محفوظ اعتبرها خزانًا للثقافة الشعبية، بما تحمل من حكايات وأمثال وعادات وتقاليد راسخة فى وجدان المصريين.
زيارات الحسين.. بوابة الرهبة الأولى.. اعتادت الأم اصطحاب طفلها إلى مقام سيدنا الحسين، وهناك كان محفوظ يقرأ الفاتحة ويقبّل الضريح بناءً على رغبتها، ويقول محفوظ فى مذكراته مع رجاء النقاش: “كانت هذه الأشياء تبعث فى نفسى معانى الرهبة والخشوع”.
وهكذا ارتبط الطفل مبكرًا بمشهد دينى وروحى مكثّف، سيترك أثره فى أعماله لاحقًا، من «أولاد حارتنا» إلى «الحرافيش».
لم تقتصر رحلة الأم على المقامات الإسلامية، فقد كانت تزور أيضًا الآثار القبطية، خاصة دير مارجرجس، وتوثّقت علاقتها بالراهبات هناك، وعندما مرضت ذات يوم، جاءت الراهبات لزيارتها فى بيتها بالجمالية، فحدثت ضجة فى الشارع لأن المشهد كان غير مألوف، ووقتها قالت الأم لابنها حين سألها عن سر حبها للحسين ومارجرجس معًا: “كلهم بركة” ويرى محفوظ أن هذا التسامح انعكس بوضوح على رؤيته للحياة، وأنه إحدى الركائز التى صاغت وعيه الإنسانى.
غرام الآثار.. ذاكرة الفراعنة الأولى.. كان من هوايات الأم أيضًا زيارة المتحف المصرى، حيث كانت تُطلق على التماثيل اسم «المساخيط»، ورغم بساطة وصفها، فقد كانت شغوفة بالآثار الفرعونية بشكل لافت.
يقول محفوظ: “لا أجد تفسيرًا لغرامها بالآثار القديمة.. إننى أجد فى أمى عراقة وأصالة أكثر من سيدات هذا الجيل. هذا الاحتكاك المبكر بتاريخ مصر القديم ربما كان أحد البذور الأولى التى ستزهر لاحقًا فى رواياته ذات الروح المصرية الأصيلة”.
الأغانى الشعبية.. صوت سيد درويش فى البيت.. كانت الأم مُغرمة بأغانى سيد درويش، وهو ما شكّل أذنًا موسيقية لدى الطفل، وساهم فى تشكيل حسه الفنى وإيقاع لغته القصصية فيما بعد.
هكذا تشكّل وعى نجيب محفوظ المبكر: من أمٍ أمية تحمل ثقافة شعب كامل، ومن زيارات تُشعل الخيال، ومن تسامح دينى يُعلّم المحبة، ومن فنون الشارع والبيوت القديمة، تلك الطفولة لم تصنع كاتبًا عاديًا، بل مهّدت الطريق لروائى عالمى حمل مصر بين سطوره حتى آخر العمر.
