هو أمر كثيراً ما ينسى حتى وإن كان من الصعب إلى حد كبير نسيان أن صاحبة العلاقة به امرأة فاتنة تسبب جمالها بتلك المقتلة التي عاشتها العصور القديمة وعرفت بكونها الحروب الطروادية التي كتب كثر عنها على مر ألوف السنين، لكن المجد، كل المجد، ظل وقفاً على الشاعر الإغريقي الكبير هوميروس الذي كرس للكتابة عنها عشرات السنين من حياته، مؤلفاً من حولها أعظم ملحمتين عرفتهما البشرية في تاريخها الطويل، “الإلياذة” و”الأوديسا”، خالقاً من حولهما عشرات الشخصيات وصولاً طبعاً إلى شخصية يوليسيس الذي لم يكف عن إبهار العالم، ولو ببطولته للجزء الثاني، ناهيك بالشخصيات الرائعة التي حفل بها الجزء الأول، وفي مقدمها باريس العاشق الولهان والحسناء هيلينا التي تتسبب من دون أن يكون لها يد في ذلك في اندلاع تلك الحروب، إذ خطفها باريس فانتفض زوجها غاضبا محارباً مدافعاً عن عرضه وهكتور وغير ذلك من كائنات تبدو في نهاية الأمر أسطورية، لكن ثمة بعد كل شيء تواريخ تؤكد أنه حتى وإن كانت عشرات الألوف من أبيات الشعر التي ملأ بها هوميروس صفحات ملحمتيه، تنتمي في غالبيتها إلى مخيلته الخصبة، فإن كثيراً من المواقف والأحداث، والشخصيات بالطبع، كانت تاريخية عاشت وتصرفت في الواقع وإن لم يكن ذلك بالضرورة كما تفعل في النصوص الهوميرية.

ومن هنا كثرت التفسيرات والتنويعات والفرضيات وصولاً إلى نسيان أن الفاتنة التي تدور الحكاية كلها من حولها وحول فتنتها وحب خاطفها باريس لها، وتنطح زوجها منيلاس للدفاع عن شرفها، كانت مصرية لا طروادية ولا إغريقية ولا أي شيء آخر.

وهو ما يذكرنا به ذلك العمل الأوبرالي الذي لحنه الألماني ريتشارد شتراوس (1864 ـ 1949)، عن نص للكاتب هوغو فون هومنشتال (1874 – 1929) في أوبرا حملت تحديداً تلك الحقيقة في عنوانها “هيلينا المصرية”.

ولعل أول ما يجب علينا لفت النظر إليه هنا هو أن هومنشتال لم يقتبس النص الأوبرالي عن هوميروس، بل عن مسرحية ليوريبيدس تدور حول الحكاية نفسها كما سنرى بعد سطور.

بين السحرة والآلهة

مهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة إلى أن نص يوريبيدس يبدو أقل ملحمية وأكثر تاريخية حتى وإن كان مليئاً بضروب السحر والمواقف المتخيلة التي تأتي كحلول ما فوق طبيعية، غير أن وظائفيتها في الموضوع ليست “تخريفية” إلى هذا الحد على أية حال.

تدور الأحداث التي تتناولها هذه الأمور بعد انتهاء الحروب الطروادية وبعد أن يكون منيلاس قد انتقم من باريس بقتله وها هو عائد إلى دياره المصرية وقد قرر أن يواصل الثأر لشرفه كما لمقتل الألوف من الإغريقيين الذين سقطوا وهم يدافعون عن قضيته.

لكن الأهم من ذلك كله هو أن منيلاس قد قرر أن على هيلينا بدورها أن تدفع حياتها ثمناً لإغوائها باريس. ومن هنا يعتزم أول الأمر أن يلقي بها في البحر كي تبتلعها الأمواج، ولكن ليس في ديار الغربة خلال رحلة العودة، بل داخل مياه الوطن، لكن الذي يحدث هنا هو أن عاصفة تهب والسفينة التي تعود بهم تغرق من جرائها.

وهذه العاصفة هي التي تنقلنا إلى الفصل الأول من بين فصلين يتألف العمل منهما، ونجدنا في ذلك الفصل الأول وسط قاعة فسيحة في قصر الثيرا ابنة واحد من ملوك مصر، وقد أنبأتها العرافة بأن لا عليها أن تقلق فإله البحر بوزيدون لا يزال مقيما على حبها، لكن العرافة تعلن أيضاً عن وصول السفينة وعلى متنها أجمل امرأة في العالم، و”خسارة أن زوجها يريد قتلها!”.

وهكذا نفهم أن الثيرا هي التي نفخت تلك العاصفة التي أغرقت السفينة، وذلك كي تتمكن من إنقاذ هيلينا من مصيرها المرسوم. غير أن منيلاس يدخل القاعة هنا ساحباً وراءه هيلينا وهو عازم على الإجهاز عليها على رغم ما تحاوله هي من بسط سحرها وإغوائها عليه.

Richard Strauss1.jpg

ريتشارد شتراوس (1864 – 1949) (غيتي)

إيحاءات الساحرة

وتدخل هنا الثيرا التي توحي بسحرها لمنيلاس، أنه يرى الآن باريس والطرواديين يحيطون به في كل مكان، فلا يكون منه إلا أن امتشق سيفه وركض مطارداً إياهم. وبعد حين يعود وهو على قناعة بأنه قتل هيلينا وباريس معاً، وأن سيفه مضمخ بدمائهما على رغم أن السيف يبدو ناصعاً لا أثر فيه لأية دماء. إن الثيرا هي التي توحي له بما يعتقد أنه يراه، لكنها لا تكتفي بذلك، بل تدفع هيلينا إلى شرب مادة تجعلها غير شاعرة بما يحدث لها أو من حولها، بل توحي إليها حتى، بأنها نائمة هنا منذ 10 سنوات وأنها لم تذهب إلى طروادة أبداً ولم تخطف، وأن ما من رجل قد دنا منها طوال تلك الفترة!

وإذ تستقر الأمور على هذا النحو تبدي الثيرا إشارة لهيلينا توقظها من سباتها الطويل، وتمكنها من أن تظهر أمام ناظري منيلاس بكل جمالها وبهائها. وإذ يراها الزوج المحب على تلك الحال يبدو عاجزاً عن مقاومتها، لكنه في الوقت نفسه يبدو واثقاً من أنه قد قتلها قبل حين. أما هيلينا فتنتهز فرصة ارتباكه لتطلب من الثيرا أن تحملها معه إلى بلد لا يعرف أحد عنهما فيه شيئاً. وتفعل الثيرا ذلك على الفور ليجد الزوجان نفسيها وسط واحة نخيل غناء تقع عند سفح لجبال الأطلس. وإذ يفيق الاثنان تعتقد هيلينا أول الأمر أن حياتهما وحبهما قد عادا كما كانا، لكن منيلاس يبدي نوعاً من عدم تصديق ما يحدث لهما، معتقداً، بل واثقاً من أن هيلينا التي يراها الآن ليست سوى شبح متخيل. بالنظر إلى أن عقله لا يزال ثابتاً عند قتله امرأته الحبيبة ومغتصبها الطروادي قرب قصر الثيرا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الطائر وابنه داوود

وعند تلك اللحظة يدخل على خط الأحداث الزعيم القبلي المدعو الطائر مصحوباً برجاله كما بابنه داوود وتتتابع هنا الأحداث التي تجعل الطائر وداوود يهيمان معاً بالمرأة الحسناء فيحاول كل منهما إغواءها غير دار بأن هيلينا لا يمكنها أن تحب أحداً سوى زوجها، ولكن هذا الأخير، إذ يلاحظ أن الفتى داوود يشبه باريس إلى حد ما يستبد به الغضب فيما طمأنته هيلينا إلى إخلاصها له.

ومع ذلك إذ يتجه منيلاس مع داوود إلى الصيد الذي يقترحه الطائر كي يخلو بهيلينا، يصر منيلاس على اصطحاب سيفه معه. وفي تلك الأثناء تكون الساحرة الثيرا قد عادت لتحكي لهيلينا حقيقة ما حدث طالبة منها أن تعيد إليها الترياق الذي يخلصها من مفعول الشراب الذي كانت قد أعطته لها ليفعل كل ما فعل، لكن هيلينا تصر على الاحتفاظ بالترياق لخشيتها من أن تتدهور أمورها لاعتقادها أنه الوحيد القادر على إنقاذها مما هي فيه.

والحقيقة أن ما يحدث بعد ذلك سيتأرجح، بخاصة من حول مساعي الثيرا لرأب الصدع بين منيلاس وهيلينا عبر إقناع الأول بأنه في الواقع لم يقتل هيلينا، بل شبحها، وأن باريس بات الآن بعيداً جداً منهما، وذلك بغية الوصول في الحكاية كلها إلى خاتمة سعيدة يتم الوصول إليها على أية حال في نهاية الأمر وبعد أن تتمكن الساحرة، تقودها إرادة بوزيدون، من إعطاء درس في الوفاء وكبح الغضب المتسرع، لمنيلاس الذي سيكتشف أخيراً، ولكن لحسن حظه، أن كل ما حدث إنما كان من تدبير تلك الساحرة لمعاقبته على سوء ظنه بهيلينا التي لم تكن سوى رمز إخلاص في حياته… غير أن الاهم من ذلك كله هو أن تلك الحكاية الأخلاقية قد مكنت ريتشارد شتراوس من كتابة صفحات موسيقية رائعة بلغت ذروتها خلال النصف الأخير من الفصل الثاني من هذه الأوبرا البديعة.