علي عبد الرحمن (القاهرة)

بعد عشر سنوات من الغياب، يعود عالم «Now You See Me»، ليعيد تشكيل اللعبة من جديد، ليس كعرض بصري بحت، بل كتجربة شاملة تتسلل إلى أعماق العقل والوجدان، رحلة بين الحقيقة والخداع، بين إرث الماضي وجرأة الحاضر، بين ما يُعرف وما يظل مجهولاً.

الجزء الثالث من أحداث السلسلة الشهيرة لا يقدم نفسه ببساطة كاستكمال لأحداثه السابقة، بل ينبثق كنافذة على سِحر متجدّد، وجيل جديد من الموهوبين، وخطة معقدة تتلّوى بين الظلال والضوء، حيث تصبح كل خدعة مرآة تكشف عن طبقات الشخصية الإنسانية، عن فضولها ورغبتها المستمرة في فهم المستور خلف المظاهر.
في هذا الفضاء السينمائي، يطلّ ثلاثة شباب جدد «تشارلي، بوسكو ليروي، وجون روكلير»، ليس لديهم سوى براعتهم وحدها، لكنهم يضيفون إليها أدوات العصر الرقمي، مثل تقنيات التزييف العميق والهولوغرام، فتبدو سرقة محفظة مالك بورصة مشفّرة فاسد كبروفة أولى لمغامرة أوسع، أكثر جرأة، وأكثر تعقيداً. 
كما أن المشهد يتجاوز حدود الإثارة المرئية ليطرح أسئلة جوهرية على المشاهد: هل ما نراه حقيقة أم مجرد وهْم؟ هل الخدعة وسيلة لفهم الواقع، أم مرآة تعكس رغباتنا، مخاوفنا، وشغفنا بما لا يمكننا إدراكه؟ ليصبح السحر أداة فلسفية، والسرقة اختباراً نفسياً، والرحلة كلها تجربة في إدراك حدود وعينا للعالم.
بينما ينطلق الفرسان الجدد في رحلتهم المليئة بالمخاطر، تبدو كل خطوة وكأنها اختبار للوعي، وكل قرار يقع ضمن شبكة معقدة من الاحتمالات، وفي هذه اللحظة يظهر «جي. دانيال أطلس»، قائد الفرسان القدامى، كظل حكيم يراقبهم بصمت، وكأنه يتسلل إلى أعماق وعيهم قبل أن تلمس أقدامهم الأرض، و«أطلس» ليس مجرد مراقب، بل هو صانع توازن دقيق بين خبرة من خاضوا الطريق سابقاً، وبين حماسة الشباب.
ويهمس لهم بصوت هادئ، لكنه مُثقل بالخبرة والوعي النفسي، بأنهم ليسوا مجرد لصوص عابرين، بل عناصر فاعلة داخل شبكة أوسع تديرها «العين»، الجمعية السرية للسحرة، حيث كل خطوة، مهما بدت صغيرة، قادرة على قلب مجرى الأحداث بالكامل ومهمتهم تتجاوز مجرد السرقة، فهي اختبار للعقل والضمير، وتجربة أخلاقية وجودية، إذ عليهم سرقة «ماسة القلب»، أعظم ماسة عرفتها البشرية، من فيرونيكا فاندر بيرغ، المرأة التي تتقاطع فيها السُّلطة والمال والخطر في لوحة واحدة معقدة، والتي ارتكبت هي وعائلتها أفعالاً أضرت بالعديد من البشر.
مع انتقال أحداث الجزء الثالث من الفيلم إلى جزيرة ياس في أبوظبي، تتغير قواعد اللعبة تماماً، والمكان هنا ليس مجرد موقع للتصوير، بل مكان حي يتنفس مع الأحداث، ويختبر قدرات الفرسان السبعة، حيث المباني الشاهقة، الأسطح المعدنية اللامعة، والمساحات المفتوحة التي تعكس الضوء من كل زاوية، تعمل كمرآة تكشف كل حركة وكل خدعة، وتجعل كل خطوة اختباراً للوعي والضمير.

العدالة ورمزية المكان

في اللحظة الحاسمة، يفي الفرسان بتعهدهم، بتسليم فيرونيكا فاندر بيرغ للعدالة، وإعادة الأموال المسروقة، وهنا يتحول المكان (أبوظبي- جزيرة ياس) إلى رمز سينمائي للقيم الإنسانية، حيث العدالة والتسامح والحق تتقدم على أي حساب للقوة أو للخديعة، متجاوزة كل اعتبار شخصي أو مادي، لتصبح معياراً حياً يقيس قدرة الإنسان على توجيه ذكائه ودهائه نحو الخير، ويعيد تذكيرنا بأن القوة بلا ضمير مجرد خدعة، والخداع بلا غاية نبيلة لا يترك أثراً سوى الفراغ.

تجربة فلسفية

في هذا الجزء الثالث، يتحول الإخراج إلى أكثر من مجرد ضبط للكاميرا والزوايا، فهو تجربة فلسفية بصرية تتخطى حدود الترفيه البصري، والمخرج الأميركي Ruben Fleischer، نجح في إيجاد إيقاع متصاعد يمزج بين السرعة والحذر، بين لحظات الانبهار والخطر، ليجعل المشاهد شريكاً في اللعبة الذهنية للسحرة السبعة. 
كل لقطة، كل حركة للكاميرا، تتبع مسار الخدعة كما لو كانت أصابع السحرة تتلاعب بالواقع، فتولد إحساساً مستمراً بعدم اليقين، وتضع المشاهد في قلب الصراع بين الحقيقة والوهم، بين الإرث والطموح الجديد.
ومع ذلك، لا يكتمل السحر البصري من دون الموسيقى التصويرية التي كتبها الموسيقار الأميركي Brian Tyler، والتي تشكّل نبض الفيلم وروحه، والألحان ليست مجرد خلفية صوتية، بل لغة أخرى للسرد، تقرأ النوايا، تكشف التوتر النفسي، وتمنح كل خدعة بُعداً فلسفياً عميقاً، وبين النغمات السريعة التي تعكس اندفاع الشباب، والأوتار البطيئة التي تعكس ثقلاً نفسياً وخبرة القدامى، تتحوّل الموسيقى إلى عنصر فاعل في السرد، توازن بين الواقع والسراب، بين القوة والضمير، بين الخدعة والعدالة.
بهذا المزج المتقن بين الإخراج والموسيقى، يصبح الفيلم تجربة متعددة الحواس، حيث لا تكتفي العين بالرؤية، ولا الأذن بالاستماع، بل يمتزج كل شيء ليصبح المشاهد في قلب شبكة متشابكة من الذكاء البصري والنفسي والفلسفي، تماماً كما يفعل السحر نفسه.