لم يعد صناع المحتوى تلك الفتاة أو ذلك الشاب اللذين يصوران مقطعاً عفوياً خلال العمل أو من المنزل أو حتى على الطريق، ولا تلك الهواية التي تُمارس على الهامش بين الدراسة والعمل. بل نحن اليوم أمام كوكب مواز، لا جاذبية فيه إلا لعدد المشاهدات، ولا عملة تُتداول سوى التأثير.

في هذا الكوكب، يمسك صانع المحتوى هاتفه، يحدثه في أفراحه وأحزانه وحتى يفشي له بعض الأسرار. ننظر نحن (من لم ندخل بعد عالم صناعة المحتوى ولا نزال في مقاعد الجمهور) من بعيد مستغربين هذه المشهدية، لكنها في الحقيقة لا تحمل أية غرابة بل باتت عادية جداً، ومن أمامنا هو شخص له ملايين المتابعين وأحياناً عشرات الملايين، يحدثهم ويتواصل معه من خلال التطبيقات الموجودة على الهاتف، وربما يترك أثراً أكبر من أية حملة إعلامية أو شخصية ذات شأن عام.

وفي زمنٍ باتت فيه اللحظة ناقصة ما لم تصور، يعيش صناع المحتوى على إيقاع عدسة لا تنطفئ، وبين واقع حقيقي وأداء مستمر، تتشكل حياة تبدو طبيعية للمتابعين، لكنها في العمق محكومة بزر تسجيل، حيث لا تقاس التجربة بما تُحدثه في صاحبها، بل بما تحققه من مشاهدة وانتشار.

انتشار غير مسبوق عالمياً وعربياً

فخلال سنوات قليلة فقط، تمدد هذا العالم من هواتفٍ محمولة إلى صناعة ضخمة تستقطب الاستثمارات وتُنتج نجومها الخاصين. وما بدأ كهواية شخصية بداية تحول إلى مهنة تُدر الأرباح، وتعيد تشكيل مفهوم الإعلام والشهرة والنجاح والوظيفة أيضاً. ومع توسع المنصات الرقمية وسهولة الوصول إلى الجمهور، تحول صناع المحتوى إلى فاعلين أساسيين في تشكيل الرأي العام والتسويق والدعاية، ما رسخ مكانة هذه المهنة الجديدة بوصفها مساراً مهنيّاً قائماً بذاته يستدعي مهارات احترافية تتطور باستمرار.

عربياً، وإن عدنا عقداً أو أكثر بالزمن إلى الوراء، كان الظهور الشخصي على الإنترنت عربياً مجرد مساحة للاكتشاف والتسلية. اليوم، تغير المشهد بالكامل، فمن الخليج إلى المغرب، تتشكل منظومة كاملة من المواهب والمنصات والشركات وفي مجالات مختلفة منها الجمال والطب والأزياء والطبخ والرياضة وحتى الثقافة، ومعها تحولت القصص العربية إلى ملايين المشاهدات، والأفراد إلى علامات تجارية مؤثّرة.

وفي ظل اتساع الجمهور العربي على المنصات الرقمية، بات المجال مفتوحاً أمام من يمتلك فكرة مختلفة أو أسلوباً صادقاً أو قدرة على ملامسة اهتمامات الناس. هنا، يمكن لصانع المحتوى أن يتحول إلى شريك للعلامات التجارية، أو مؤثر في مجتمعه، أو حتى مؤسس مشروعه الخاص. ومع تزايد الطلب على المحتوى العربي، تضاعفت الفرص أمام من يمتلك مهارة السرد، وفهم المنصات، والقدرة على التجديد.

pexels-blue-bird-7243156.jpg

يمكن لصانع المحتوى أن يتحول إلى شريك للعلامات التجارية، أو مؤثر في مجتمعه (موقع بيكسلز)

عالم أصبح مهنة أكثر منه هواية

يقول صانع المحتوى الجزائري إبراهيم باعدج الذي يعرف بـ “مينيز” إن عالم صناعة المحتوى هو عالم كبير، وما يعنيه بالمقام الأول أن يقدم معلومة وأشياء لا تظهر في الشاشة وأن يكون له أثر إيجابي على الجمهور وكل متابعيه.

ويضيف “اخترت عالم السياحة لأنه شغفي ومنذ صغري أحب السياحة والاستكشاف والأماكن الجميلة والرائعة، لذا أقدم المحتوى الخاص بي بكثير من الحب. ما أقدمه هو منذ البداية هواية وحب وشغف”، ويتابع أنه مع الوقت لا بد أن يكون في كل عمل مدخول مالي حتى يتمكن من الاستمرار ويصمد، لذا لا بد أن تتحول صناعة المحتوى مع الوقت إلى مهنة وليست مجرد هواية من دون مقابل”. ويؤكد أن التحديات والسلبيات في عالم صناعة المحتوى كثيرة، ومنها التعب المستمر بخاصة أن صناعة المحتوى تأخذ الكثير من الوقت والتصوير والمونتاج، ما سيحرم صانع المحتوى من قضاء الوقت مع عائلته وغيابه لفترة طويلة.

جائزة “ديجيتال كرييتير أوارد”

“مينيز” فاز بجائزة أفضل صناع محتوى عن فئة السياحة ضمن جائزة “ديجيتال كرييتير أوارد” Digital creator awards، التي أقيم حفل توزيعها في العاصمة القطرية الدوحة.

والمفارقة هنا أن “مينيز” وبعد تسلمه الجائزة، نزل من على المسرح ولم يذهب إلى حيث يجلس المقربون منه (عائلة أو أصدقاء) بل سارع إلى فتح هاتفه وتسجيل مقطع فيديو ليحتفل بفرح كبير مع جمهوره بالفوز المشترك.

هذه الجائزة التي تكرم صناع المحتوى العرب في مجالاتهم المتنوعة وعلى مختلف المنصات الرقمية، أقيمت بنسختها الثالثة، وفيها كانت الكلمة للجمهور الذي صوت مباشرة لصانع المحتوى المفضل لديه في الفئة المرشح عنها. وفي جائزة عام 2025 تنافس 80 صانع وصانعة محتوى ضمن 15 فئة، فيما بلغ عدد المصوتين 120 مليون شخص، وفق المنظمين.

أما المتنافسون فكانوا من دول عربية عدة، شملت السعودية، قطر، الإمارات، البحرين، سوريا، تونس، الجزائر، فلسطين، الأردن، العراق، لبنان، اليمن، الكويت، مصر والمغرب.

وقد فاز بالجوائز الـ 14 الباقية، عن فئة التعليم مصطفى زهير، عن فئة الصغار جنى الحفار، عن فئة الصحة أحمد أشرف، عن فئة الألعاب “بي أن أل”، عن فئة الطبخ عبير الصغير،

الفائزون بالجائزة

عن فئة البودكاست محيو حفصة، عن فئة اللايف ستايل أنس الشاي، عن فئة الترفيه غيث مروان، عن فئة التقنية أيمن بوذراع، عن فئة الكوميديا يزن أبو عجوة، عن فئة الأثر الإنساني أمينة الذهبي، عن فئة الفن مجد الزاقوت، عن فئة الرياضة بلال حداد وأخيراً عن فئة البث المباشر كريم الجزائري.

وعلقت أمينة الذهبي على فوزها بالقول إن مثل هذه الجوائز هي تشجيع لكل صانع محتوى واعتراف بالمجهود الكبير الذي يقوم به، وهذا الفوز سيحفزها على تقديم المزيد بأثر أكبر.

“صناعة المحتوى هي عمل متكامل” تضيف الذهبي، معتبرة أن صناعة المحتوى الرقمي لم يقابله الإعلام التقليدي في البداية بكثير من الإيجابية، لكن مع الوقت باتت العلاقة بين الطرفين أفضل وأصبحت متكاملة. وعن علاقتها بجمهورها، تقول إنهم عائلتها الثانية وعلى تواصل دائم معهم.

في المقابل، تقول مريم درني التي كانت ضمن المرشحين لفائزة أفضل محتوى عن فئة التعليم، إن صناعة المحتوى هي كل حياتها، وهذا العالم يأخذ منها جهداً منذ الصباح وحتى المساء، بخاصة أنها تقدم محتوى تعليمياً يتضمن الكثير من المعلومات، وهي تعمل بمفردها من دون فريق مساعد، ما يعني جهداً مضاعفاً وبشكل متواصل.

“عالم صناعة المحتوى صعب جداً ولا بد أن تكون شخصيتك قوية، لكن هو مجال جميل جداً وفيه تأثير كبير على شريحة واسعة من الجمهور” تؤكد درني، وتضيف أنها دخلت هذا العالم كهاوية لكن مع الوقت تواصلت معها شركات اهتمت بإيصال رسائل لجمهورها، وبذلك تحول دخولها هذا العالم إلى مهنة.

تدفق العلامات التجارية نحو المؤثرين

إذاً وباعتراف مؤثرين، لم يعد ظهور صانع المحتوى على الشاشة وليد لحظة عشوائية أو إلهام عابر، بل تحول اليوم إلى مهنة مكتملة تستدعي التخطيط، وبناء الهوية الرقمية، وفهم خوارزميات المنصات، وإتقان مهارات الإنتاج والتسويق وحتى إدارة أعمال لدى البعض، والأهم يحتاج ساعات يومية طويلة من العمل، الذي ينتهي أخيراً بدقائق قليلة في عالم التواصل الاجتماعي أو ربما حتى بصورة واحدة.

كذلك فإن تدفق العلامات التجارية نحو المؤثرين، وارتفاع حجم الإعلانات الرقمية عربياً، جعلا من صناعة المحتوى مساراً مهنياً مربحاً يستقطب الشباب والشركات على حد سواء. ومع ظهور وكالات إدارة المحتوى، أصبح صانع المحتوى يعمل وفق جدول، واستراتيجية، وفريق أحياناً. هكذا انتقلت الصناعة من حدود الشغف الفردي إلى عالم الاحتراف حيث تُقاس النتائج بالأرقام، ويُبنى النجاح على الاستمرارية والجودة والتأثير.

وقد أظهرت دراسات عالمية وعربية أن المحتوى الرقمي أصبح أحد أسرع القطاعات نمواً خلال العقد الأخير، مدفوعاً بانتشار الإنترنت والهواتف الذكية وارتفاع معدلات استهلاك الفيديو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في السياق، كشفت دراسة أجرتها مجموعة “أورينت بلانت” في أبريل (نيسان) عام 2025 أن عدد مستخدمي الإنترنت في المنطقة العربية يبلغ نحو 348 مليون مستخدم، أي ما يعادل 70.2 في المئة من إجمالي عدد السكان البالغ 496 مليون نسمة.

هذا التوسع دفع الشركات إلى تحويل جزء كبير من موازناتها الإعلانية نحو المؤثرين وصناع المحتوى، إذ تشير بعض تقارير التسويق الرقمي إلى أن ما بين 30 و40 في المئة من العلامات التجارية في الشرق الأوسط تعتمد اليوم على التعاون مع صناع المحتوى كجزء أساسي من استراتيجياتها.

ومع تضاعف العائدات الإعلانية وتزايد المنافسة، ظهرت منظومات احترافية جديدة تتضمن وكالات لإدارة المواهب الرقمية، وشركات إنتاج مختصة، ودورات معتمدة في مجالات صناعة الفيديو، وتحليل البيانات، وإدارة الجمهور. كذلك بات صانع المحتوى يعتمد على أدوات قياس الأداء وتحليل التفاعل لتطوير خططه، تماماً كما تفعل المؤسسات الإعلامية التقليدية. هذه الوقائع مجتمعة تؤكد أن صناعة المحتوى لم تعد مساحة للجهد الفردي العفوي، بل قطاعاً مهنياً قائماً على المهارات، والاستراتيجيات، والعوائد الاقتصادية، ما يحولها إلى خيار وظيفي حقيقي يزداد ترسيخاً عاماً بعد عام.

لكن في الوقت عينه في خفايا هذا العالم الذي نرى الجزء الأصغر منه على الشاشة، هناك الكثير مما نجهله بخاصة التحديات والصعوبات التي يواجهها الصانعون، وأيضاً أحياناً حملات الانتقاد الكبيرة التي قد يتعرضون لها بسبب فيديو لا يتعدى الدقيقة أو كلمة خرجت قصداً أو هفوة، قبل أن تتحول إلى موجة انتقادات وترند.

فئات عمرية مختلفة تنشط في صناعة المحتوى

كما لا يقتصر عالم صناعة المحتوى على جيل واحد، بل بات مساحة مشتركة تتقاطع فيها الأعمار والخبرات والاهتمامات. فجيل الشباب يقود المشهد بجرأته وسرعته وقدرته على التقاط الصيحات الجديدة وصياغتها بلغة بصرية آسرة. وإلى جانبهم، يبرز جيل أكبر سناً وجد في المنصات الرقمية باباً لعرض خبرته الطويلة ومشاركة قصصه ومهاراته، مقدّماً محتوى أكثر عمقاً واتزاناً.

وحتى الأطفال باتوا يشكلون فئة مؤثرة، يقدمون محتوى ترفيهياً وتعليمياً يلقى رواجاً واسعاً بين العائلات. هذا التنوع العمري، الذي قد يبدأ من سنوات قليلة ويصل إلى الثمانين وربما أكثر، لا يثري المشهد فحسب، بل يعكس تحول العالم الافتراضي إلى فضاء ديمقراطي مفتوح للجميع، حيث لا عمر يقف حاجزاً أمام صناعة محتوى، وربما تأثير حقيقي.

وهنا تقول جنى الحفار، الفائزة بجائزة “ديجيتال كرييتير أوارد” عن فئة الصغار، إنها لم تكن تتوقع فوزها وإن المنافسة كانت قوية بين الجميع حتى بين فئة الصغار.

وعن دخول الأطفال للعالم الافتراضي، تقول الحفار إنها ومن صغرها على مواقع التواصل الاجتماعي وقد تعودت على الكاميرا، وإنه على الصغار أن يستغلوا هذا العالم بشكل جيد ومتوازن من دون أن يؤثر ذلك على دراستهم وشخصيتهم بشكل سلبي، وإن بإمكان أي شخص وبأي عمر كان أن يثابر ويصل ويكون له جمهور واسع في العالم الافتراضي.

ولدى سؤالنا عن تحول مضمون ما تقدمه مع خروجها من عالم الطفولة وتحولها إلى راشدة خلال سنوات قليلة، اعتبرت أن جمهورها الذي رافقها منذ سنوات الطفولة هو أيضاً يكبر معها وسيكون في المراحل المقبلة وفياً وشريكاً معها في المستقبل.