اضطر الوالد أن يرهن ساعته الذهبية ليساعد أبناءه الأربعة في شراء جهاز عرض سينمائي بلغ ثمنه آنذاك 1000 دولار كما وافق أن يتحول فناء منزله في أوهايو إلى صالة عرض يأتي الجمهور إليها ليشاهد الأفلام القصيرة بينما يقوم الأشقاء بالعمل كالتالي، سام للتشغيل وآبي لبيع التذاكر وهاري للماليات وجاك للمهمات المتفرقة.
بتلك الروح الأسرية بدأ الأخوة المهاجرون من بولندا إلى أمريكا عملهم في 1903 وبعد 7 سنوات تمكنوا من تأجير أول دار عرض خاصة بهم وهي الخطوة التي سبقت تأسيس شركتهم “وارنر براذرز” في 1923 ليصبح هذا التاريخ مفصلي في عالم صناعة السينما والترفيه، خاصة بعد أن تمكنت شركتهم من أن تقود تلك الصناعة لأكثر من 100 عام وتتجاوز قيمتها التسويقية 60 مليار دولار ما جعل عروض الاستحواذ عليها خلال الأيام الماضية مثار جدل وأسئلة كثيرة.

بدأت القصة في يونيو الماضي حين أعلنت “وارنر براذرز” عن انقسامها إلى شركتين منتصف 2026 ليبدأ صراع بين الشركات الطامحة في الاستحواذ على إرث “وارنر”، وتمكنت شركة نتفليكس من أن تقدم عرضا شمل الحصول على أستوديوهات “براذرز” التلفزيونية والسينمائية وأصول البث المباشر بما فيها أصول منصتي “إتش بي أو ” و” دي سي كوميكس” وذلك مقابل 82.7 مليار دولار شاملة الديون، وبمجرد الإعلان عن تقدم الصفقة اشتعلت المنافسة أكثر فتقدمت شركة باراماونت سكاي دانس بعرض قيمته 108.4 مليار دولار مدفوعة بدعم من “أفينيتي بارتنرز” المملوكة لجاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي ترمب ودعم صندوقي الثروة السيادية السعودي والقطري وشركة ليماد القابضة المملوكة لحكومة أبو ظبي.
وفقا لآخر تحديث لبورصة نيويورك تعد “وارنر براذرز” كيانا عاما متداولا في سوق الأسهم ما يعني أنها مملوكة لمستثمرين ومؤسسات استثمارية، وتوضح قائمة أكبر الملاك أن “فانجارد” الأمريكية تمتلك الحصة الأكبر بـ11.4% من أسهم الشركة ويليها مجموعة “بلاك روك” بنسبة 7.4% من الأسهم ثم شركة ستيت ستريت بنصيب 6.4% إضافة إلى آلاف المستثمرين المتداولين يوميًا في البورصة.
قائمة المؤسسات والشركات التي تملكها “وارنر براذرز” تشير إلى إنها إمبراطورية عملاقة في صناعة الترفيه والسينما، وتشمل أستوديوهات نيو لاين سينما، وارنر براذرز للرسوم المتحركة، وارنر براذرز للتلفزيون، وارنر بيكتشرز للأفلام المتحركة كما تملك وارنر براذرز هوم إنترتينمنت للنسخ الرقمية ووارنر براذرز جيمز في قطاع الألعاب الإلكترونية.

في القنوات والشبكات التلفزيونية تملك وارنر براذرز قنوات “سي إن إن، إتش إل إن” في القطاع الإخباري، و”تي إن تي، تي بي إس” في الترفيه والرياضة، وكارتون نتورك للأطفال والرسوم وقنوات أخرى في الوثائقيات والواقعية، بالإضافة إلى منصات بث أبرزهم “إتش بي أو ماكس” و”إتش بي أو” الأصلية وديسكفري، ومفترض أن تتم إعادة هيكلة بعد انقسام الشركة في 2026.
هذا الإرث الضخم لم يكن فقط السبب في الصراع الشرس بين الشركات ، فهناك سبب آخر أسهم في زيادة المنافسة وهو من سيملك ذاكرة الأجيال لأكثر من 100 عام، فمنذ 1923 وحتى أول الثلاثينيات كانت “وارنر براذرز” قد أنتجت 100 فيلم شكلوا وعي الناس آنذاك، كما أسهوا في تطور صناعة السينما إذ كان أول فيلم ملون ناطق بالكامل من إنتاج “وارنر” وكذلك أول فيلم موسيقى وفي مجال الرسوم المتحركة كانت “براذرز” هي أول منافس لـ”والت ديزني” من خلال أفلام رسوم متحركة.
صناعة ذاكرة الأجيال مهمة لم تتخلّ عنها “وارنر براذرز” خلال أكثر من قرن، ففي الحرب العالمية الثانية كانت حاضرة بإنتاج أشهر الأفلام مثل “كازابلانكا”، وفي 1978 انتجت فيلم “سوبر مان” الذي حقق إيرادات تجاوزت الـ300 مليون دولار ليسجل رقمًا قياسيا في عالم السينما وهو ما شجع الشركة على إنتاج فيلم “باتمان” بعد 11 عاما وقد تجاوزت إيراداته أيضًا الـ400 مليون دولار، ثم تبعته بفيلم “ذا ماتريكس” بأرباح 466 مليون دولار و”هاري بوتر” 2001 وقد حقق 974 مليون دولار أرباح ناهيك عن أجزاء كل فيلم، والأهم أن تلك الأفلام صارت جزءا من طفولة وشباب مئات الملايين في أمريكا وحول العالم.

بالتوازي مع ذلك لم تترك “وارنر” مجالا في صناعة الترفيه والسينما إلا ودخلت فيه مبكرًا، ففي 1955 توسعت في مجال التلفزيون بمسلسلات مثل “شايان” و”مافريك” وبعد امتلاك منصة “إتش بي أو” في التسعينيات انطلقت أكثر بإنتاج مسلسلات مثل “آل سوبرانو” (1999-2007) و “جيم أوف ثرونز (2011-2019) والذي تجاوزت نسبة مشاهدته 120 مليون مشاهدة وحقق أرباحا للمنصة قدرت بـ3.1 مليار دولار خلال سنوات عرضه بحسب صحيفة “الغارديان” البريطانية، هذا النجاح التلفزيوني كان نسخة مكررة لوارنر في قطاعات الأخبار والرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية.
دخلت “وارنر براذرز” في العديد من الصفقات على مدار تاريخها ففي 1967 استحوذ عليها إليوم وكين هيمان، وبعدها بعامين اشترت شركة “كيني ناشيونال” الشركة وأعيد تسميتها إلى “وارنر كوميونيكيشنز”، وجاءت الصفقة الأكبر في 1989 حين اندمجت أستوديوهات “وارنر” مع شركة “تايم إنك” ليشكلا شركة “تايم وارنر” وشملت بعض الشبكات التلفزيونية والمنصات مثل “إتش بي أو ” و “سي إن إن” و”تي إن تي” وقد قدرت قيمتها بـ350 مليون دولار آنذاك في أكبر عملية اندماج في تاريخ الأعمال الأمريكية.
رغم ذلك تعد الصفقة الحالية هي الأكثر جدلًا، إذ رفضت نقابات هوليوود مثل نقابة الممثلين بيع “وارنر” إلى شركة نتفليكس بالتحديد باعتبارها تتصدر السوق العالمية في صناعة البث والمنصات وفي حالة إتمام الصفقة سيصبح هناك جهة واحدة “تحتكر” المحتوي المرئي وذاكرة الأجيال الأمريكية مفضلين البيع لجهات أخرى قادرة على خلق تنافس حقيقي يخدم الصناعة.
