انطلق عرض فيلم “الستّ”، الذي يتناول حياة المطربة أم كلثوم، من بطولة الفنانة المصرية منى زكي، في دور العرض السينمائية الأربعاء الماضي، وسط ضجّة وجدل في الأوساط الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي. فهل يستحق الفيلم الضجّة؟
من قبل عرضه، أحاطت بالفيلم ضجّة وتباينت الآراء حوله، بحكم مكانة أم كلثوم في الوجدان المصري (والعربي)، وبفضل ضخامة المشروع إنتاجياً، وظهور العديد من الفنّانين ضيوف شرف في أدوار مهمّة بحياة أم كلثوم، وبالأخصّ بسبب اضطلاع منى زكي بدور البطولة. البعض شكّك بقدرة وأحقية منى زكي بتأدية الدور الرئيسي، فيما راهن آخرون على قدرتها على تقمّص الدور.
في “الست”، المعروض عالمياً للمرة الأولى في حفل افتتاح مهرجان مراكش السينمائي الدولي، يُقدّم مروان حامد (مخرجاً) وأحمد مراد (كاتباً) أكثر بكثير من مجرد سيرة ذاتية لأم كلثوم. يُقدّمان فيلماً أرشيفياً شاملاً وجريئاً يُعيد النظر في حياة “كوكب الشرق”، مُسلّطاً الضوء على جوانب مهملة نسبياً في سيرتها الثرية: التزامها، نضالها، وعيها السياسي، ومكانتها كامرأة مؤثرة في عالم يهيمن عليه الرجال. مشروعٌ طموح، مدفوع بكتابة دقيقة وإخراج مُتقن، يتجرّأ على البحث عن الأسطورة حيث لم تُروَ من قبل.
لطالما احتفت السينما والتلفزيون المصريان مراراً بهذه النجمة، إلا أن أعمالاً نادرة تجرّأت على الغوص في أرشيفها الشخصي، ومقالاتها، ونشاطاتها النقابية، أو دورها الخفي خلف كواليس السلطة. يتخذ “الستّ” نهجاً مختلفاً لهذه الروايات المعتادة، بتركيزه على المرأة وراء الصوت، والمواطنة وراء الأسطورة، والاستراتيجية وراء النجمة. يعود مراد وحامد بقصّة أم كلثوم إلى طفولتها، حيث بدأت ملامح مسارها الفريد تتشكّل: طفلة صغيرة تتنكّر بزيّ صبي لتغنّي التواشيح في قريتها بالسنبلاوين (في دلتا النيل)، متحديةً الأعراف الاجتماعية بجرأة فطرية. يصبح هذا المشهد المحوري أحد المحرّكات الرئيسية للفيلم، الذي يُظهر باستمرار كيف تحايلت الفنانة على قواعد اللعبة، وتفاوضت بشأنها، وأعادت تعريفها.
يسرد الفيلم مراحل مختلفة من حياتها: بداياتها المتواضعة، وبناء نفوذها المنهجي، وعلاقتها المعقّدة مع النخب السياسية والاجتماعية، وأخيراً، دخولها التاريخ السياسي للعالم العربي. يقدّم طاقم التمثيل مجموعة من الشخصيات المتقنة – عمرو سعد، سيد رجب، أحمد داود، أحمد خالد صالح – لكن منى زكي هي مَن تضفي على الفيلم روحاً حقيقية. فهي تصوّر امرأة تجمع بين السلطة والرقّة، والولاء والتخطيط الاستراتيجي، مدركة دائماً لقوّتها وصورتها.
يتناول صناع الفيلم أيضاً أكثر مراحل حياتها إثارةً للجدل: علاقاتها الوثيقة بالعائلة المالكة، وعلاقتها بخال الملك فاروق، وتوتّراتها مع الزوجة الثانية للملك فؤاد الأول، ثم صراعها على السلطة ضد جمال عبد الناصر قبل أن ينظر إليها الشعب كرمزٍ أخلاقي. يُذكّرنا الفيلم بحقيقةٍ غالباً ما تُنسى: كانت أم كلثوم شاهدةً على التحوّلات السياسية في مصر الحديثة، بل وعاملةً غير مباشرة في هذه التحوّلات. فمن خلال حفلاتها الوطنية، ومواقفها العلنية، وجهودها في جمع التبرعات خلال الحرب، حشدت أمةً بأكملها، محوّلةً المسرح إلى منصةٍ مدنية. يجسّد “الستّ” كيف تشابكت غاية أم كلثوم مع أحداث سياسية كبرى في عصرها، بدءاً من سقوط النظام الملكي تحت الاحتلال البريطاني، مروراً بانقلاب الضبّاط في 1952، وصولاً إلى حلم الوحدة العربية. كانت أم كلثوم شخصية استثنائية: امرأة مؤثرة ذات مبادئ راسخة، وبطلة قومية عربية، وصوت أمّة تتأرجح بين الأمل وخيبة الأمل.
بصرياً، يقدّم مروان حامد فيلماً جارفاً، شاعرياً في بعض الأحيان، يتأرجح بين إعادة بناء التاريخ وعظمة الملحمة. تُثري الديكورات والأزياء وإعادة تصميم الاستوديوهات وقاعات الحفلات سرداً يتجنّب التلقين لصالح العاطفة والتعقيد وكثافة الواقع. لا تُضفي القصّة هالةً مثاليةً على أم كلثوم، بل تكشف عنها بكلّ ما فيها من قوة وتناقضات. وهذا يُحسب لصنّاع الفيلم، بالنظر إلى تحاشي صنّاع السيَر العربية نزع هالة الأسطورة والتقديس عن “الرموز”. لعقود، تعاملت السير السينمائية العربية مع الشخصيات التاريخية والفنية بمنطق تقديسي، يباعد بينها وبين طبيعتها البشرية، مسيّجةً مقارباتها بمروحة من المحرّمات والممنوعات.
بهذا المعنى، لا يُعدّ “الست” مجرّد تكريم، بل إعادة تفسير ضرورية، وُضعت في سياقها السياسيّ، وصُمّمت لجمهور اليوم. يأتي الفيلم ليكسر هذا الإرث، ويعيد تشكيل العلاقة بين المتلقّي والشخصية الأسطورية، فيقدّم أم كلثوم امرأة قبل أن تكون ظاهرةً. وهذا بحدّ ذاته إنجاز، بصرف النظر عن نقائص الفيلم العديدة. نخرج من الفيلم ونحن على يقين بأنّ هذه الفنانة العظيمة لم تُشكّل الموسيقى العربية فحسب، بل أثّرت أيضاً في مصير بلدها، تاركةً بصمةً خالدةً في تاريخه بحضورها.
