طلال دليم.. عندما يكتب الخشب سيرة الفن والوجدان

في زاوية هادئة من سوق الفن والتصميم في «مسك للفنون»، بدا ركن الفنان طلال دليم أقرب إلى ورشة ذاكرة مفتوحة، لا إلى منصة عرض تقليدية. فالأعمال الخشبية التي قدّمها، بكل ما تحمله من تدرجات طبيعية وتقطيعات دقيقة، لم تكن مجرد نتاج مهارة، بل امتدادًا لروح تتأمل الأشياء قبل أن تضعها في قالب فني.

البداية من الهندسة إلى الخشب

نشأ دليم وسط بيئة تقنية ترتبط بهندسة التصنيع، وهناك اكتشف ميله المبكر إلى تصميم الأشياء وصياغة الأشكال. وحين جاء عام 2016، بدأت رحلته الحقيقية إلى عالم الفن.

بدأ بالرسم، قبل أن يكتشف أن الخشب هو الخامة التي تُشبهه خامة تحتفظ بملامحها الطبيعية، وتتيح للفنان مساحة واسعة للتشكيل وإعادة البناء.

انتقل تدريجيًا من الطاولات والأعمال الوظيفية إلى اللوحات الخشبية، ليبتكر أسلوبًا يجمع الهندسي بالحس الإنساني، ويجعل من القطعة الفنية محاولة دائمة لالتقاط أثر الإنسان.

الأسلوب.. لغة وروح واحدة

تعتمد أعماله على تقنية دقيقة في تقطيع الخشب إلى أجزاء تُعاد صياغتها لتشكّل وجوهًا وهيئات بشرية مجردة.

اللون ليس طلاء بل هو الخشب نفسه: عروقه، درجاته، اختلافاته الدقيقة، وكلها تتحول إلى طبقات تعبيرية تمنح القطعة عمقًا بصريًا وهدوء يقترب من التأمل.

ويمزج دليم بين الفن الكلاسيكي العربي بروحه التراثية، وبين الستايل السنابطي المعاصر، ليخلق توليفة تجمع بين جذور المكان وحداثة التكوين.

«مفقودة».. حضور الغياب

من أبرز أعماله قطعة بعنوان «مفقودة»، وهي عمل يلتقط لحظة إنسانية شديدة الرهافة.

تجتمع فيها القطع الخشبية لتصوغ هيئة امرأة، ليس بوصفها غائبة، بل بوصفها أثرًا ما زال يعيش في الذاكرة.

لا يقدم العمل الفقد كحزن، بل كظل يواصل حضوره في المسافة بين الشكل والروح.

مشروع “10”.. الإصغاء إلى ما تقوله الخامة

وفي مشروعه الفني رقم 10، يروي دليم تجربة بوصفها تدريبًا على الرؤية:

أن يسمع الفنان صوت الخشب قبل أن يفرض عليه الشكل، وأن يتعلم كيف تتبدّل الفكرة حين تنفصل عن التصور الأول لتصبح كائنًا مستقلًا.

“مشروع 10” هو نتيجة حوار طويل بين الفنان وخامته، حوار لا تُحسم فيه النتيجة إلا حين تستقر القطعة في صورتها الأخيرة.

لوحة الأب.. العمل الذي لا يُعرض للبيع

أما العمل الأقرب إلى قلبه، فهو اللوحة التي أنجزها لوالده رحمه الله.

بدأها في أيام مرضه، وأتمها بعد رحيله فصارت اللوحة جسرًا عاطفيًا بين الابن وذاكرة الأب.

لم يعرضها للبيع، لأنها لا تنتمي إلى سوق الفن، بل إلى مساحة شخصية لا يدخلها إلا القلب. في هذه اللوحة تحديدًا، يظهر الفن كقدرة على مداواة الفقد، وعلى تثبيت اللحظة التي يخشى الإنسان أن تغيب.

الرؤية.. الفن كإرث وكشف للذات

يطمح دليم إلى أن تعبر أعماله عن روح الإبداع والإرث الثقافي، وأن تقدم تجربة تمتد من جذور الفن العربي إلى حداثة اليوم، وتساعده خلفيته الإدارية على تنظيم مشروعه الفني وتطويره، ليصبح الفن لديه ممارسة تنمو من الداخل قبل أن تظهر على الجدار.