منذ حملته الانتخابية، كرر دونالد ترامب وعدا طموحا: “سأنهي الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة”. بعد دخوله البيت الأبيض مطلع 2025، تراجع الخطاب إلى هدف سياسي: إنهاء الحرب خلال 100 يوم، ثم الحديث عن “التقدم” لا عن حل فوري. في مارس/آذار 2025 اعترف أنه كان “ساخرا إلى حد ما”، عندما قدم مهلة الـ 24 ساعة، وأن الواقع أعقد بكثير.

مع ذلك، ظل جوهر الفكرة ثابتا، صفقة سريعة وكبيرة مع موسكو وكييف، تفرضها واشنطن تحت عنوان: “إيقاف سفك الدماء”، و”التركيز على الصين”، و”تخفيف أعباء المساعدات عن دافعي الضرائب الأميركيين”.

في هذا الإطار عين ترامب رجال أعمال ومقربين مثل ستيف ويتكوف وصهره جاريد كوشنر كقناة تفاوض غير تقليدية مع الكرملين، بعيدة نسبيا عن بيروقراطية الخارجية والبنتاغون، في أسلوب ينسجم مع طريقته في إدارة الملفات الحساسة عبر “دبلوماسية الصفقات” أكثر من الاعتماد على الخبراء التقليديين.

تثبيت مكاسب القوة مقابل وقف النار

تبدو المسودة المسماة بـ “الخطة ذات الـ 28 نقطة” مثيرة للجدل. فعلى المستوى الأمني، تقترح الخطة تثبيت وقف إطلاق نار شامل، تتبعه اتفاقية عدم اعتداء بين روسيا، وأوكرانيا، وأوروبا، مع حوار أميركي-روسي-أوروبي؛ لتسوية الغموض الكبير طيلة العقود الثلاثة الماضية في بنية الأمن الأوروبي. وهذا يعني عمليا، الاعتراف بروسيا كشريك أساسي في أي عملية أمنية مقبلة.

أما على المستوى الإقليمي، فجوهر الخطة يقود نحو تثبيت مكاسب روسيا الإقليمية، بدءا من تنازل أوكرانيا عن كامل إقليم دونباس (شرقا) لموسكو، بما في ذلك مناطق ما زالت حتى اللحظة تحت سيطرة كييف، مع تكريس الأمر الواقع في الأراضي التي ضمتها روسيا سابقا مثل القرم.

في المقابل، يعاد التأكيد اللفظي على “سيادة أوكرانيا” على ما تبقى من أراضيها، من دون رجوع عملي كامل لحدود 1991. كما تلزم الخطة أوكرانيا بالتخلي الدستوري عن الانضمام إلى حلف الناتو، مقابل تعهد هذا الأخير بعدم التوسع شرقا في المستقبل، وعدم نشر قوات له داخل أوكرانيا، مع نقل ثقل الردع إلى دول مثل بولندا، حيث يعاد نشر طائرات مقاتلة غربية.

وتتضمن الخطة على الصعيد العسكري، سقفا عدديا لقوات الجيش الأوكراني (نحو 600 ألف جندي، مقارنة بما يقرب من 900 ألف حاليا)، بما يضعف أوكرانيا ويحولها إلى دولة محدودة القدرة الهجومية، ويطمئن موسكو بأن كييف لن تشكل تهديدا مستقبليا.

في المقابل تقدم الخطة لأوكرانيا حزمة وعود:

مسار سريع نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
تمويل لإعادة الإعمار بمساهمات أوروبية وأميركية وربما دولية أوسع.
و”ضمان أمني” أميركي مشروط: الولايات المتحدة، ومعها بضع دول، تتعهد بالرد إذا تعرضت أوكرانيا لعدوان جديد، مع تفاصيل تقنية معقدة حول شكل الرد وآلياته.

إلى جانب ذلك، تمهد الخطة لإعادة دمج روسيا في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك رفع تدريجي للعقوبات، وربما إعادة موسكو إلى مجموعة الثماني الموسعة، في حال الالتزام بالاتفاق، ما يجعل من هذه الصفقة من منظور الكرملين، فرصة للخروج من العزلة.

سلام واقعي في مواجهة حرب استنزاف

يقدم أنصار مقاربة ترامب، الخطة كنوع من الواقعية القاسية. فالحرب بنظرهم دخلت عامها الرابع، والخسائر البشرية والاقتصادية تتفاقم، والغرب أُنهك من دعم عسكري ومالي طويل الأمد، وروسيا أظهرت استعدادا لتحمل كلفة عالية للاستمرار.

في ضوء هذه المعطيات، تبدو العودة إلى حدود 1991 شبه مستحيلة من دون تصعيد خطير قد يفتح الباب أمام مواجهة أوسع بين الناتو وروسيا، وبالتالي فإن الحل الواقعي هو تثبيت خطوط السيطرة الحالية تقريبا، مع تنازلات إقليمية من أوكرانيا، مقابل وقف النار وضمانات أمنية.

من هذا المنظور، الهدف ليس تحقيق العدالة الكاملة بل وقف النزيف بما يعني وقف الحرب الروسية الأوكرانية وتجنيب العالم خطر الانزلاق إلى حرب نووية، وإتاحة الفرصة أمام أوروبا التي توجد في وضعية حرجة لإعادة بناء قوتها ومنظومتها الدفاعية، وكذلك، وهذا هو الأهم، تركيز الولايات المتحدة على الصراع الإستراتيجي مع الصين بدل استنزاف قدراتها في حرب طويلة في أوروبا الشرقية.

هذا المنطق يقرأ الحرب كعدسة للميزان الجيوسياسي العالمي، لا كعدسة للقانون الدولي وحقوق الشعوب فقط، وبالتالي فهو لا ينكر أن الخطة تستجيب كثيرا لمطالب روسيا، لكنه يعتبر ذلك ثمنا ضروريا لإنهاء حرب يرى أصحاب هذا المنطق أنها باتت بلا أفق نصر حاسم.

انتقادات أوكرانيا وأوروبا، سلام أم استرضاء؟

تلقى الجانب الأوكراني والأوروبي الخطة بشكل صادم. فأوكرانيا التي خاضت حربا ضروسا منذ 2022، وفقدت مئات الآلاف من القتلى والجرحى، ودُمرت أجزاء واسعة من بنيتها التحتية، ترى أن القبول بالتنازل عن أراضٍ واسعة وعن حقها في اختيار تحالفاتها الدفاعية، يعني عمليا الاعتراف بشرعية الحرب الروسية.

فالخطة الأميركية بصيغتها الأولى، وضعت أوكرانيا بنظر الرئيس فولوديمير زيلينسكي في إحدى أصعب اللحظات في تاريخها؛ لأنها ليست مجرد اتفاق عسكري بل هي اتفاق يحدد مستقبل الدولة لعقود: حدودها، جيشها، تحالفاتها وعلاقتها بالقانون الدولي.

كما أثارت الخطة موجة انتقادات حادة في أوروبا، خاصة في باريس وبرلين، حيث نقلت تقارير صحفية أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حذر زيلينسكي في مكالمة خاصة من أن واشنطن قد تدفع أوكرانيا في ملف الأراضي إلى تقديم تنازلات كبرى من دون ضمانات أمنية صارمة، وأن أوروبا لن تقبل بـ”سلام مفروض” يعيد منطق ميونخ 1938، أي استرضاء قوة توسعية على حساب دولة أصغر. لكن الرياح في المأزق الأوكراني لا تسير بما تشتهيه السفن الأوروبية.

بعض الأوروبيين لم يروا في الخطة إلا اتفاقا أميركيا- روسيا فوق رؤوس الأوكران والأوروبيين معا؛ إذ صيغت المسودة الأولى بين واشنطن وموسكو عبر قناة ويتكوف- ديمتري، ثم عرضت على كييف كأمر واقع، من دون تشاور جدي مسبق مع حلفاء رئيسيين في الاتحاد الأوروبي.

وهذا ما دفع بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى صياغة مقترح مضاد يراجع البنود الـ28 بندا بندا، ويشدد أكثر على التعويضات، واستخدام الأصول الروسية المجمدة، وتثبيت مبدأ عدم شرعية تغيير الحدود بالقوة.

إلى جانب ذلك، أثارت جوانب أخرى من الخطة انتقادات حقوقية عميقة، فمجموعة من النواب البريطانيين (أكثر من 130 نائبا) انتقدوا مثلا غياب إشارة واضحة لحقوق الأطفال الأوكرانيين المرحلين إلى روسيا، واعتراضهم على فكرة العفو الشامل الذي قد يسقط مذكرات التوقيف الدولية بحق مسؤولين روس متهمين بجرائم حرب، وعلى رأسهم الرئيس بوتين والمفوضة ماريا لفوفا-بيلوفا. من وجهة نظر هؤلاء، مثل هذا العفو يقوض القانون الدولي الإنساني، ويشرعن الإخفاء القسري، والتهجير القسري للأطفال.

روسيا تجني مكاسب إستراتيجية، فالخطة تحقق لها أهدافا لا حد لها، من بينها:

منع أوكرانيا من الانضمام للناتو.
تثبيت السيطرة على دونباس والقرم على الأقل.
دفع الغرب للاعتراف بضرورة مراعاة “المصالح الأمنية الروسية”.
فتح الباب أمام تخفيف العقوبات وإعادة الاندماج الاقتصادي.

مع ذلك، تصريحات بوتين الأخيرة- التي يربط فيها قبول أي اتفاق باعتراف أوكرانيا والغرب بـ”الحق التاريخي لروسيا” في بعض الأراضي، وبضمانات مكتوبة بعدم توسع الناتو- تظهر أنه لا يرى نفسه مضطرا إلى قبول كامل ما تقترحه واشنطن، وأنه مستمر في استخدام الحرب كوسيلة لتحسين شروط التفاوض.

فتهديده المتكرر بتوسيع العمليات نحو أوديسا وميكولايف يهدف أيضا إلى القول إن الزمن يعمل لصالح موسكو، وأن أي تسوية مستقبلية ستبنى على ما تفرضه القوة على الأرض.

بمعنى آخر، الخطة بالنسبة لروسيا ليست تنازلا، بل إطارا لتكريس جزء من مكاسبها مع إمكانية الدفع للحصول على المزيد سواء على الطاولة أو في الميدان، ما دام الغرب منقسما وأوكرانيا تحت ضغط هائل.

سلام ناقص وحرب مفتوحة- أي أفق ممكن؟

حتى لحظة كتابة هذه السطور، تبدو الخطة في حالة مراوحة وما زالت المفاوضات مستمرة وإن كان سيرها عسيرا. فقد تم تعديلها جزئيا بعد مفاوضات جنيف بين الوفدين الأميركي والأوكراني، وصاغ الأوروبيون مقترحا مضادا، بينما يواصل بوتين تصعيده العسكري والميداني، ما يضعف حظوظ أي تسوية سريعة.

نظريا يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

أولا: قبول أوكرانيا بنسخة معدلة من الخطة، مع ضمانات أمنية أميركية وأوروبية أقوى، وتعديلات تقلص حجم التنازلات الإقليمية أو تربطها باستفتاءات تحت إشراف دولي، واستخدام الأصول الروسية المجمدة في تمويل الإعمار. هذا السيناريو يوفر وقفا سريعا للحرب.

ثانيا: رفض أوكراني حاسم واستمرار الحرب، مع تآكل تدريجي في الدعم الغربي، إذا شعرت عواصم أوروبية وأميركية بأن كييف “ترفض الفرصة الأخيرة للسلام”، ما قد يضعف موقف أوكرانيا ميدانيا، ويمنح موسكو هامشا أوسع للضغط العسكري؛ لإعادة فرض خطتها الخاصة على الأرض.

ثالثا: تجميد واقعي للحرب من دون اتفاق شامل، حيث تستمر الاشتباكات بوتيرة أقل، وتتصلب خطوط الجبهة، ويعلق المشروع الأميركي-الروسي-الأوكراني في الهواء، بينما تتجه أوروبا إلى تعزيز دفاعاتها، وتستمر روسيا في محاولة تفكيك جبهة الدعم لأوكرانيا عبر أدوات الطاقة والسياسة والهجرة.

في جميع الأحوال، تكشف التجربة أن السلام ليس مجرد نص مكتوب، بل هو موازين قوى وذاكرة جماعية وتصور للعدالة. خطة ترامب، في صيغتها الحالية، تبدو أقرب إلى محاولة “إدارة” الحرب وتقليص كلفتها، أكثر من كونها معالجة جذرية لأسبابها، لأنها تتجاهل سؤالا أساسيا: هل يمكن لنظام دولي أن يستقر إذا قبِل مبدأ تعديل الحدود بالقوة، حتى لو أوقف ذلك حربا بعينها؟

على سبيل الختم

باختصار، خطة الرئيس ترامب لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية ليست مجرد تفاصيل تقنية في 28 بندا، إنها اختبار لنموذج كامل في صنع السلام عبر الصفقات، ولقدرة القانون الدولي على الصمود أمام منطق القوة. فقبولها أو رفضها لن يحدد فقط مصير أوكرانيا، بل سيترك أثرا بعيدا في طريقة إدارة النزاعات المسلحة مستقبلا، فهل ستحسم الحرب على طاولة تفاوض ترسمها الدبابات، أم ضمن إطار قانوني يحاول أن يوازن بين الواقعية والعدالة؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.