وقعت الدولة اللبنانية أخيراً مذكرة تفاهم مع شركة “أوراكل” العالمية، في خطوة تقدم رسمياً كجزء من مشروع واسع لتحديث الإدارة العامة وتدريب 50 ألف لبناني من مختلف القطاعات على مهارات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية. مبادرة تبدو، للوهلة الأولى، محاولة لالتقاط خيط المستقبل وتأكيد حقيقة راسخة أن رأس المال البشري هو الركيزة الأساس لأي نهوض اقتصادي، وأن الاستثمار في الكفاءات اللبنانية يشكل اليوم المدخل الأكثر واقعية لتعويض ضعف البنية التقليدية وبناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
واللافت أن صحيفة Tehran Times الإيرانية رفعت إشارة تحذير، وتحدثت عن أسئلة مكتومة حول هوية الشريك وعن المساحات التي سيتسلل إليها، وعن بيانات دولة قد تجد نفسها موزعة بين خوادم بعيدة وسياسات لا تعرف حدودها.
ودخول “أوراكل” لبنان لا يتوقف عند البعد التدريبي، بل يفتح أيضاً نقاشاً جديداً حول إدارة البيانات العامة وحماية السيادة الرقمية، في ظل شركة عالمية تمتلك حضوراً عميقاً في القطاعات الحساسة حول العالم.
وبين من يرى في الاتفاق فرصة لإدماج لبنان في المنظومة المعلوماتية الإقليمية، ومن يتساءل عن موقع البيانات الحكومية في هذا التحول، يقف لبنان أمام لحظة دقيقة تفرض إعادة التفكير بدور التكنولوجيا في الإدارة العامة، وبالحدود الفاصلة بين التحديث والتهديد.
رأس المال البشري أساس النمو
في السياق، أكد وزير الاقتصاد اللبناني عامر بساط، لـ”اندبندنت عربية”، “أن رأس المال البشري اللبناني يشكل الركيزة الأساس لأي نمو اقتصادي مستدام”، مشيراً إلى أن “الكفاءات اللبنانية هي العنصر الأكثر قدرة على تحقيق القيمة المضافة، سواء داخل البلاد أم في الأسواق الخارجية، إذ يثبت اللبنانيون نجاحهم وتميزهم في مختلف القطاعات”.
وأوضح البساط أن “الاستثمار في الكادر البشري ليس خياراً ثانوياً بل ضرورة اقتصادية”، معتبراً أن لبنان “يعول على طاقاته الشابة المتخصصة لتعويض ضعف البنى التقليدية، ولبناء اقتصاد حديث قائم على المعرفة والابتكار”، مشدداً على أن “اللبنانيين الذين يبدعون في الخارج يشكلون الدليل الأوضح على حجم الإمكانات المتوافرة، وعلى قدرة لبنان على استعادة دوره الاقتصادي متى توفرت البيئة المناسبة”، وأضاف أن “تفعيل هذه الطاقات محلياً من شأنه أن يدعم مسار إعادة النهوض الاقتصادي، ويعزز قدرة الاقتصاد على جذب الاستثمارات وخلق فرص العمل”.

توقيع مذكرة تفاهم مع وزارة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في لبنان (السفارة الأميركية في بيروت)
خطوة تمهيدية لمرحلة معلوماتية جديدة في المنطقة
بدوره، اعتبر الباحث الاقتصادي والمالي بلال علامة أن “دخول شركة أوراكل إلى لبنان يشكل مدخلاً تمهيدياً للشركات الأميركية لفتح الباب أمام إدخال الأنظمة المعلوماتية الحديثة إلى السوق المحلية”، مشيراً إلى أن “طبيعة هذا الدخول ليست استثمارية مباشرة، بل تتركز على تقديم تدريب ومعونة تقنية لعدد كبير من الكوادر البشرية اللبنانية، تمهيداً للتعامل مع نظم المعلومات الخاصة بالقرن الـ21″، وموضحاً أن هذه الخطوة “قد تمهد لإدخال أنظمة الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتطورة”، ومعتبراً أن “المرحلة المقبلة قد تشهد انتقال الأنظمة المعلوماتية نحو ما يخطط له حتى عام 2030”.
وعن تنشيط اليد العاملة وتأهيل الكوادر رأى علامة أن “العملية ستؤدي طبيعياً إلى تنشيط اليد العاملة المتخصصة، بما يسمح بالاستفادة من هذه الكفاءات لاحقاً في سوق العمل داخل لبنان أو خارجه”، مشيراً إلى أن “هذا النوع من التدريب يسهم في تعزيز حضور الكوادر اللبنانية ضمن نهضة النظم المعلوماتية في منطقة الشرق الأوسط”، ولافتاً إلى “إمكان الاستفادة من هذه القدرات سواء من خلال العمل المباشر أو العمل عن بعد”.
دمج الكفاءات اللبنانية في المنظومات الإقليمية
أضاف علامة أن “النظام المقترح لتدريب وتأهيل الكادر البشري قد يساعد في دمج عدد كبير من العاملين اللبنانيين ضمن المنظومة المعلوماتية الجديدة التي يجري إعدادها في المنطقة”.
وقال علامة إن “هذه المنظومة قد تشمل شبكة معلوماتية تربط دول الشرق الأوسط بعضها ببعض، وربما ترتبط أيضاً بطاقات عاملة داخل إسرائيل”، لافتاً إلى أن “أوراكل موجودة في إسرائيل وفي البحرين وفي مختلف دول الخليج والعالم العربي”، وشدد على أن “وجود يد عاملة لبنانية مؤهلة قد يفتح الباب أمام استثمارات تستخدم التقنيات المعلوماتية المتطورة، مع إمكان استفادة الأشخاص المؤهلين من فرص عمل ضمن هذه المشاريع المستقبلية، وأن حجم الوظائف غير واضح بعد، لأن الاستثمارات لم تتبلور بالكامل”.
ربط محتمل بالمشاريع الاقتصادية الإقليمية
وتابع علامة أن “التأهيل قد يرتبط بمشاريع تطرح للمنطقة، ومنها ما يحكى عنه لجهة المنطقة الاقتصادية المقترحة في جنوب لبنان ضمن المشروع المنسوب للرئيس الأميركي دونالد ترمب”، لافتاً إلى أن “هذه المشاريع قد ترتبط بخط بحري يصل إلى سوريا ثم تركيا ودول الخليج، وأن المسار مرتبط برؤية مستقبلية للمنطقة”.
وعن إمكان استفادة القطاع العام، أكد علامة أن “تدريب اليد العاملة بصورة احترافية قد تتيح للبنان الاستفادة في القطاع العام عبر تحسين الخدمات الحكومية وتطوير الأداء المعلوماتي”، مستدركاً، في الوقت نفسه، أن “تأهيل الكوادر قد يرفع من مستوى أجورها إلى درجة لا يتمكن القطاع العام من استيعابها، مما يجعل التوجه أقرب إلى القطاع الخاص وإلى المشاريع الإقليمية المرتقبة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن أهمية الإدارة الإلكترونية، قال علامة “من أبرز الأهداف المطروحة تطوير الإدارة اللبنانية عبر الانتقال إلى الإدارة الإلكترونية ومكننة عمل القطاع العام”، مؤكداً أن “إدخال مفهوم الإدارة الرقمية يسهم في رفع فعالية العمل، وخفض كلفته، وتحسين سرعة الخدمات، وتوفير بيئة أعمال متطورة للمستثمرين”، مبيناً أن “اعتماد الأنظمة المعلوماتية يسهل الأعمال، ويزيد فعاليتها، ويحكم ضبطها، ويخفض التكاليف، ويؤمن الأساس لدمج المنظومات اللبنانية ضمن النظام المعلوماتي المتطور في المنطقة، وصولاً إلى الاندماج في الأنظمة العالمية”.
خلفيات سياسية محتملة
وعن وجود خلفيات سياسية محتملة، أشار علامة إلى أن “مشروع التدريب يحمل خلفيات لا تزال مبهمة، خصوصاً أنه موجه لعدد كبير من الكوادر بتوجهات وأهداف قد تتجاوز الوضع اللبناني الحالي”، ورأى أن الخطوة “قد تكون مرتبطة بالتطورات الجارية في الشرق الأوسط، وبالمشروع الأميركي المتعلق بالتسوية مع الكيان الإسرائيلي والتعاون الاقتصادي”، ومعتبراً أن “تحقيق هذه المسارات يبقى مرتبطاً بمستقبل الطروحات السياسية في المنطقة”.
من جهته، أوضح الخبير في التحول الرقمي والأمن السيبراني رولاند أبي نجم أن “دخول شركة أوراكل إلى لبنان ليس خطوة ظرفية”، معتبراً أن “السوق اللبنانية ما زالت جديدة في مجال التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي خلافاً لأسواق الخليج التي تشهد منافسة مرتفعة وتشبعاً في الخدمات الرقمية”.
وقال أبي نجم إن “السوق في السعودية والإمارات مشبعة، فيما تبقى السوق اللبنانية غير مستغلة، مما يجعل منها فرصة للشركات العالمية الساعية إلى دخول أسواق جديدة”، مشيراً إلى أن “الشركة تقدر أن تغييراً سيحصل في البنى التقنية والإدارية في لبنان، وتسعى إلى الدخول المبكر للاستفادة من التطور المستقبلي”.
تدريب 50 ألف شخص
وتطرق أبي نجم إلى برنامج تدريب 50 ألف لبناني، مشيراً إلى أن “الخطوة ذات كلفة منخفضة على الشركة، ويمكن أن يكون لها تأثير كبير إذا استهدفت الفئات المناسبة”، ومؤكداً أن “التدريب في مجالات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني أساس لردم فجوة المهارات في السوق اللبنانية”، لافتاً إلى أن “التدريب عملية مستمرة نظراً إلى التطور المتسارع في التكنولوجيا، ولا يمكن بناء قطاع رقمي من دون طاقات بشرية مؤهلة”.
وفي ما يخص توجيه التدريب نحو القطاع العام، رأى أبي نجم أن “الاستثمار قد لا يكون فعالاً إذا اقتصر على هذا القطاع، بسبب ابتعاد عدد كبير من الموظفين عن اختصاصاتهم وعدم عملهم ضمن بنية حديثة”. معتبراً أن “الأولوية يجب أن تكون للطلاب وللشركات الناشئة”، وأكد أبي نجم أن “أي تدريب لن يحقق النتيجة المطلوبة في غياب البنية التحتية الأساسية، من كهرباء وإنترنت وأنظمة تشغيل وأتمتة”، معتبراً أن “المبادرة قد تسهم في دعم الإدارة العامة، لكنها تبقى غير كافية، المطلوب تطوير البنية التحتية وإعادة تنظيم المنظومة إذا كان الهدف بناء دولة رقمية”.
