في عالم الشاشة الصغيرة لا يكون النجاح دائمًا بوابة مفتوحة للأدوار التالية، بل قد يتحول أحيانًا إلى قيد ثقيل. فالممثل الذي يقدّم دور بطولة استثنائيًا في مسلسل ناجح ومتعدد المواسم، يجد نفسه لاحقًا أمام امتحان بالغ الصعوبة: كيف يقنع الجمهور بشخصية جديدة، بينما صورته الأولى لا تزال حاضرة بقوة في الذاكرة؟ من هنا وُلدت فكرة غير معلنة بين المشاهدين، يمكن تسميتها بـ«لعنة المسلسل».
هذه اللعنة لا تصيب ضعيفي الأداء، بل العكس تمامًا. تصيب من نجح إلى الحد الذي اندمج فيه مع شخصيته، وبات من الصعب فصل أحدهما عن الآخر في وعي الجمهور. وفي حين يستطيع بعض الممثلين تجاوز هذه المعضلة في السينما، حيث التجربة محدودة بزمن الفيلم، يبقى المسلسل التلفزيوني ساحة أكثر قسوة، لأن العلاقة بين المشاهد والشخصية تمتد لسنوات طويلة، وتتراكم فيها العاطفة والتفاصيل.
بهذا المعنى، بدا اختيار فينس غيليغان لريا سيهورن لتكون بطلة مسلسله الجديد Pluribus مخاطرة محسوبة. ريا لم تكن مجرد ممثلة بارزة في Better Call Saul، بل كانت «كيم ويكسلر» أحد أعمدة العمل، وشخصية تشكّل حضورها بهدوء، وبنت رابطًا عميقًا مع الجمهور عبر المواسم. كيم كانت شخصية صامتة، دقيقة، وتحمل ثقلها النفسي دون ضجيج، ما جعلها تبقى عالقة في الوجدان حتى بعد نهاية المسلسل.
السؤال الذي طُرح منذ إعلان العمل كان منطقيًا: كيف سيتمكن المشاهد من الارتباط بشخصية «كارول» وعقله لا يزال مشغولًا بكيم؟ كيف يمكن تجاوز الإحساس بأن هذه المرأة نفسها، بكل هدوئها السابق، قد تتحول فجأة إلى شخصية أخرى دون أن يحدث تصادم ذهني؟ وزادت حدة هذا السؤال حين بدا أن Pluribus يحمل في روحه كثيرًا من أجواء Better Call Saul، من حيث الإيقاع والتوتر الأخلاقي، ما جعل المسافة بين العالمين أقل اتساعًا مما ينبغي لتسهيل الانفصال.
في الحلقات الأولى، لم يكن هذا الشك وهميًا. المقارنة كانت حاضرة، والظل كان ثقيلًا. لكن مع تقدم الأحداث، وتحديدًا عند منتصف الموسم، بدأت صورة مختلفة تتشكل بهدوء. ريا سيهورن لم تتعامل مع هذا الإرث بمحاولة إنكاره أو تحطيمه، بل اختارت طريقًا أكثر نضجًا: بناء شخصية جديدة من الداخل، دون صدام مباشر مع الذاكرة القديمة.
كارول جاءت شخصية مختلفة في جوهرها؛ امرأة منفعلة، حادة، سريعة القرار، لا تعتمد على الصمت ولا تلوّح بالتردد طويلًا. حضورها قائم على المواجهة لا الالتفاف، وعلى التعبير المباشر لا الحسابات الصامتة. ومع كل حلقة، بدأت هذه السمات تتراكم بهدوء، إلى أن أصبحت كارول شخصية مستقلة بذاتها، لا امتدادًا ولا ظلًا لكيم، بل نقيضًا دراميًا لها.
عند هذه النقطة، بدأ التحول الحقيقي يحدث لدى المشاهد. المقارنة خفتت، والتداخل الذهني تراجع، ولم يعد استدعاء كيم تلقائيًا في كل مشهد. وهو إنجاز نادر في مسلسلات التلفزيون، حيث غالبًا ما تطغى الشخصية الأولى على كل مسار لاحق.
يمكن القول اليوم إن ريا سيهورن نجحت في كسر «لعنة المسلسل» دون ضجيج أو ادّعاء. قدّمت بطولتين تلفزيونيتين في عملين ناجحين جدًا، بشخصيتين مختلفتين تمامًا في الطرح والبنية النفسية، وتمكّنت من إقناع الجمهور بكلتيهما دون أن تلغي إحداهما الأخرى.
في زمن تتسم فيه ذاكرة المشاهد بالعناد، وتتحول فيه الشخصيات التلفزيونية إلى علامات ثابتة، يُحسب لريا سيهورن أنها خاضت هذا الرهان الصعب وخرجت منه رابحة؛ لا لأنها تجاوزت شخصية كيم، بل لأنها أثبتت أن النجاح الحقيقي لا يكون في الهروب من الماضي، بل في القدرة على بناء هوية جديدة مقنعة ومتكاملة.
