يمتلك الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي القدرة على الانتقال بين أنواع الكتابات السردية بسلاسة. فنراه يستعيد ملامح الحياة الكويتية قبل النفط في رواية “سنة القطط السمان”، وقبلها يخوض في التاريخ الأندلسي ليطرح أسئلة حول الهوية والذاكرة في “ولا غالب” الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية في الكويت عام 2021. يقدّم أدب الرحلات في “دروب أندلسية”، والشهادات الموثقة لحياة المواطنين تحت الاحتلال العراقي للكويت في “أصوات تشيد الذاكرة”. وأخيراً مسرحية “برا البلد.. جوّا البلد”.
الحمادي تحدث لـ”الشرق” عن تجربته الإبداعية المتنوعة، وروايته الأخيرة “سنة القطط السمان” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة “كتارا” 2025.
قدّمت مسرحية للمرة الأولى في القاهرة ما هو موضوعها؟
هي مونودراما بنيت على سيرة الفنان السوري- السويدي سعد حاجو، بدأتها عندما وجدت في سيرته- عبر الهجرات من بلد لآخر- أفكاراً أحببت نظمها في عرض مسرحي. قام بتمثيلها الفنان سعد حاجو، وأخرجتها ناندا محمد، وعرضناها في القاهرة لليلة واحدة. وسجّلت حضوراً نوعياً مهماً، أضاف لي الكثير.
في “زمن القطط السمان” تعود إلى تاريخ الكويت قبل قرن. ما أبرز التحديات التي واجهتك في توثيق ملامح الحياة الكويتية؟
كتابة “زمن القطط السمان” كان تحدّياً كبيراً، لأني غير معاصر لتلك الحقبة. لكني أهوى التاريخ وملمّاً ببعض أجزاء التاريخ المحلي، علماً أن ذلك لم يغنني عن العودة للكتب والمراجع والوثائق، وخصوصاً البريطانية، مع انتباهي لفكرة أن الوثائق غير معصومة من الأهواء، وأن الأجانب الذين مرّوا على المنطقة قد تحتوي كتاباتهم على الكثير من المغالطات.
مع انغماسي في القراءة والبحث، عرفت أن الآونة الأخيرة شهدت زخماً في نشر كتابات تاريخية مهمة عن المجتمع الكويتي قبل النفط. بحوث ركّزت على المهن القديمة وأخرى حللت طبيعة العلاقات بين الناس، وثالثة توثّق العادات والتقاليد، واستفدت من كل تلك القراءات.
كما استعنت بمعرفة أصدقائي بتاريخ الكويت مكاناً وناساً وأحداثاً؛ إذ يعملون في مشروع “معالم مدينة الكويت القديمة” البحثي، الذي أنجزه مركز البحوث والدراسات الكويتية؛ لذلك رغم كم البحث والقراءة والاستقصاء، أحسست أن الطريق ممهّدة أمامي، ومشروع الرواية يناديني.
هل تجد أن التاريخ الكويتي، مرحلة ما قبل النفط، يقدّم مادة مناسبة للكتابة الأدبية؟
بالتأكيد، عبر محطات أدبية متفرقة زمنياً، اشتبك الكتّاب في الخليج وخارجه لتاريخهم وتصدوا لكتابته، وكذلك فعل الروائيون الكويتيون خاصة أبناء جيلي في الآونة الأخيرة. ويزخر التاريخ الكويتي بموضوعات تصلح لكتابتها أدبياً، والأهم برأيي أن يكون الكاتب ملماً بموضوعه ويجتهد في البحث ويخلص قدر الإمكان للكتابة.
ثمّة مئات القصص الموثّقة لحياة البر والبحر في الكويت عبر كتب الغربيين والكويتيين، مثل كتاب “أبناء السندباد” لآلن فيلرز، وكتب الدكتور يعقوب الحجي عن “نواخذة السفر الشراعي”، وموسوعة الغزو العراقي للدكتور فيصل الوزان وغيرها. إن ثراء تلك القصص التاريخية المتعلّقة بالكويت كمّا ونوعاً، يجعلني أرى أن المعضلة والتحدّي لا يكمنان في الموضوعات، بل في كيفية كتابتها ونقلها عبر فن الرواية.
استخدمت اللهجة الكويتية المحلية في الحوارات داخل الرواية؟ ألم تخش تأثير ذلك على وصولها للقراء العرب بشكل أوسع؟
في الغالب الأعم لم تكن لهجة رواية “سنة القطط السمان” كويتية محلية كما ظنها البعض، بل هي اختيارات لهجة؛ بمعنى أن من يتتبع شؤون اللهجات العربية يعرف أن حصّة الفصحى منها هي الأكبر، وأن أغلب مفردات اللهجة الكويتية تنتمي للفصحى.
وفي “سنة القطط السمان”، تعمّدت اختيار الكلمات التي شاعت بين الناس على أنها لهجة محلية، بينما هي في حقيقتها فصيحة. كنت في ذلك متأثراً بمدرسة نجيب محفوظ في الاختيارات اللغوية التي قد يراها الناس عامية، بينما هي فصيحة ركّبت في قالب القول العامي. ووجدت أن ذلك الفعل والاجتهاد لاقى حظه مع القرّاء العرب لحسن حظي.
أشرت في الرواية إلى العلاقة بين الكويت والعراق، وهجرة الشباب للدراسة هناك أو في مصر. برأيك ما الذي يفسد العلاقات بين الشعوب؟
الجهل هو السبب الأول لإفساد العلاقات بين الشعوب. ثم الاعتقاد بنظرة نمطية لا تزول مهما نقضها الطرف الآخر. لذلك وجدت أثناء الكتابة أن العلاقات بين الشعوب العربية- العربية تظل جيدة وتفاعلية، ويتبادلون المنافع بنوايا طيبة، لكن الجهل والنظرة النمطية يساهمن في العمى الانتقائي عند قطاع كبير من الشعوب، وخصوصاً في كتابات من يُحسبون علينا كمثقفين، بينما هم في حقيقتهم تجّار في سوق الكلام.
علاقتك القوية بمصر واضحة في كتاباتك فما سبب هذا الحب؟
مصر هي شمس الثقافة العربية، وخصوصاً منذ أواخر القرن التاسع عشر. أشعّت عبر الكتب المؤسسة للثقافة والمفكرين الكبار. لذلك من الطبيعي أن أكون أنا وغيري نكّن الحب لمصر، التي تمتد علاقتنا معها ككويتيين إلى ما قبل النفط، وتجلّت في يوم الاحتلال عندما وقفت معنا.
البناء السردي لديك متنوع، كيف تحدده بالنسبة لكل عمل؟
تتعدد طرق الكتابة والحذف حتى يصل الواحد منا إلى أسلوب يراه جيداً ويناسب موضوع روايته. مثله مثل فكرة الرواية التي غالباً تنبثق من المجهول، ويقضي المرء ساعات طويلة يحاول أن يجد جذور فكرته.
قد تكون الإجابة غير الدقيقة برأيي هي أن كل تلك الاختيارات وليدة القراءة والحوار مع الأصدقاء ومحاولة البحث. وفي حالة رواية “سنة القطط السمان” مثلاً، اخترت الراوي المخاطِب الذي لا أفضله عندما أقرأ رواية.
وعندما بحثت فيما أورده النقّاد، وجدت أن هذه الأداة لا يفضّلها الكُتّاب ولا الناشرون من حول العالم. لكن ميّزتها برأيهم أنها تحجب عن القارئ ذلك الوهم المشهور، بأن المتحدث في الرواية هو المؤلف، وتبني حاجزاً بينهم وبينه، يجعلهم يركزون على الشخصية والحكاية دون ربطها بالكاتب، وتلك ميزة أردتها لأجعل لبطل روايتي وجوداً مختلفاً.
كتبت في أدب الرحلات، وظهرت الأندلس مرة ثانية في “ولا غالب” فما قصّة الأندلس معك؟
قصتي مع الأندلس قديمة، برزت من اهتمامي بالتاريخ العربي-الإسلامي، وفتنتني مرحلة الأندلس التي تصوّر بـ “الحياة السعيدة” دوماً في أدبياتنا اليومية. تلك الصورة التي حاولت مناقشتها في البداية عبر كتابي “دروب أندلسية” ثم طرحتها بشكل موسّع في رواية “ولا غالب”، جاعلاً منها مثالاً لتفكيك وتحليل مشكلات الذاكرة العربية المرتبطة بالماضي، والتي لا تبصر المستقبل.
كيف أثّر عملك في السياحة على تجربتك الأدبية؟
بالنسبة للرحلات التاريخية الجماعية التي أعمل بها، فقد أثّرت بي كثيراً، إذ إن اطلاعي على تواريخ الشعوب المختلفة وأطباعهم المتباينة، جعلني أحاول على الدوام التقاط المشتركات بين البشر وهي كثيرة.
كنت أراقب تحوّلات تاريخ كل بلد نزوره، وما هي آمال وأحلام الناس، وكلا الأمرين أضافا إليّ رصيداً معرفياً وإنسانياً أستخدمه مراراً في شخصياتي، أو القصص أو حتى المقالات.
أصدرت كتاب “أصوات تشيد الذاكرة” شهادات المواطنين عن الحياة اليومية في الكويت أثناء الاحتلال العراقي. كيف أثّرت فترة الاحتلال عليك؟
في تلك الفترة كنت في مرحلة تشكّل وعيي، حينها كنت تجاوزت العاشرة، وأتبنى من دون وعي وجهة نظر عروبية بشكل طفولي، كما كنت أؤمن بمصداقية كل ما كان الإعلام يسقينا إياه.
عندما جاءت لحظة الاحتلال، تصدّع كل ذلك البناء القديم. لم أكن لأتخيل أن يكون الغازي شقيقاً عربياً. لذلك كان الاحتلال العراقي لحظة فارقة في حياتي عندما شهدت الجنود يعيثون في مواطن ذاكرتي، مستبدلين الأسماء بأخرى جلبوها معهم.
وعندما بدأت العمل على “أصوات تشيد الذاكرة” واجهت تحدّيات عدّة، منها رغبتي في تصحيح السردية المغلوطة بأن الكويت أثناء الاحتلال كانت أرضاً خاوية. لذلك كنت محظوظاً عندما وجدت شهادات كُتبت بخط اليد ترسم كل أطياف فسيفساء المجتمع الكويتي، من شيوخ وتجّار وأناس من مختلف المشارب، ممن كانوا صامدين يقاومون المحتل كل على طريقته.
أحدهم يقاوم بالسلاح والآخر بالمال وبالقلم والمنشورات، وهناك جماعات تنظيم نظافة الأحياء وإدارة شؤونها الحياتية، وسط توقف حركة الاستيراد وجفاف الأسواق وشحّ المعروض شيئاً فشيئاً.
حاولت أن أصحّح سردية أخرى مغلوطة، وأبيّن الدور الإيجابي للجاليات العربية على غير المشهور بين الناس، وخصوصاً الأجيال الجديدة الذين أتوجّه إليهم بهذا الكتاب، ليكون ذاكرة لهم عن لحظة صهرت الكويتيين في جسد واحد.
كيف تجد العلاقة بين التاريخ الرسمي وما تفتحه الرواية من باب أمام التاريخ غير الرسمي؟
إن التاريخ الرسمي عبر مدوّنة التاريخ الإنساني، هو تاريخ قادة ومؤثرين في مجمله، لا وجود للناس العاديين في ثناياه. لذلك جاءت الرواية لتكون صوت الناس، فهم صُنّاع التاريخ الحقيقيين.
رغم أنني أحب التنويه بأن اعتماد التاريخ الموجود في الروايات المتخيّلة على أنه تاريخ حقيقي هو كسل فكري، إذ أن التاريخ -لمن أراده- موجود في الكتب البحثية والجدالات الأكاديمية والمؤرخين المتبحرين في هذا الشأن.
أما الجانب الإيجابي في الروايات التي تصنّف بالتاريخية في أنها قد تكون باباً لاكتشاف التاريخ. مثلاً، عندما قرأت رواية “ليون الأفريقي” لأمين معلوف، شرعت بعدها بقراءة كل ما أجده يتعلّق بحسن الوزان بطل الرواية. وأذكر بأن ذلك البحث كان من أوائل الدروس التي بيّنت لي الفارق بين كتابة شخصية حقيقية في رواية، ومدى اقتراب ذلك من حقيقتها، وكيف يعيد الكاتب صياغتها لتكون شخصية من شخصيات روايته.
كيف ترى دور الجوائز العربية في تعزيز قيمة الأعمال التي تنطلق من البيئة المحلية، وتأثيرها على الكُتّاب؟
للجوائز العربية دور كبير في تحريك الكتابة الأدبية وزيادة حركة الإنتاج. هناك سلبيات لا يمكن تجاهلها، لكن الإيجابيات أكثر. صنعت الجوائز بقوائمها الطويلة والقصيرة قرّاء يترقّبون، وساهمت في تسليط الضوء على تجارب سردية ممتازة، كانت تحتاج لسنوات طويلة للوصول إلى القارئ.
تنقّلت بين أدب الرحلات، والرواية التاريخية ومؤخراً المسرحية والسيرة الذاتية. ما الذي يحدد اختيارك لقالب العمل الأدبي؟
في الحقيقة لا أعرف كيف تأتي الموضوعات، وتكبر وتختار شكلها. سأعطي مثالاً عن الكتاب الذي سأنشره قريباً عن أحمد مشاري العدواني، وهو من أهم الإداريين والشعراء العرب في القرن العشرين. وتجربته البارزة لم تأخذ حقها برأيي كتابة. وكان حصوله على لقب شخصية العام استفزّني لأكتب مقال عنه فيما يزيد عن ثلاثة آلاف كلمة، ثم كمنت المعضلة في سؤال: أي مجلّة ستنشر هذا المقال؟
وفي لحظة اليأس بدأت في استكمال اكتشافي لشخصية العدواني لأحوّل المقال إلى كتاب، ووجدت نفسي غارقاً في بحر أربعين ألف كلمة.
