كان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في بدايات توحّشه عام 2023، عندما وجدت المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر نفسها أمام خيار صعب: أن تتوقف أو تمضي في مشروع فيلمها “فلسطين 36″، الذي تعود أحداثه إلى نحو مئة عام مضت، إلى الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الانتداب البريطاني، تلك الحقبة التي خضعت فيها فلسطين لـ”جراحة” سياسية هي الأسوأ في تاريخها.
قررت آن ماري (مواليد بيت لحم عام 1974) أن تمضي قدمًا، فما يحدث في راهن شعبها لم يكن سوى امتداد مباشر لتلك السنوات الانتدابية التي أزاحت الأرض من تحت أقدام أجدادها، وصولًا إلى قيام دولة إسرائيل وما تلا ذلك من وقائع لم تتوقف.
لكنّ ذلك كان جانبًا من الصورة. ففي الجانب الآخر، ثمّة شعب لم يتوقف عن الدفاع عن أرضه ووجوده، منذ ذلك الوقت حتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
آن ماري جاسر في مهرجان البحر الأحمر – موقع المهرجان
تتحدث آن ماري عن فيلمها بوصفه “قصة فلسطينية تُروى من وجهة نظرنا، وهي وجهة نظر لم تحظَ بما يكفي من السرد أو الإصغاء”، وتضيف:
نحن نتحدث دائمًا عن عام 1948، لكنني كنت أقصد ما قبله باثني عشر عامًا. أردت العودة إلى ذلك الماضي، لأن القصة كانت بالنسبة إليّ معاصرة جدًا دائمًا.
لم أردها أن تبدو كأنها شيء من الماضي. فكلّ تلك التداعيات التي بدأت عام 1936 مهّدت الطريق لكل ما نشهده اليوم.
كان من المفترض أن تُصوّر آن ماري فيلمها في الداخل الفلسطيني. أمضت هي وفريقها نحو عشرة أشهر في التحضيرات، قبل أن يحول العدوان على قطاع غزة دون تنفيذ الخطة. عندها انتقل الفريق، القادم من عدة دول، إلى الجوار الأردني.
“فلسطين 36” والعدوان على غزة
تستعيد آن ماري تلك المرحلة في إحدى مقابلاتها الصحافية قائلة: “كنا في بيت لحم، وكان لا بد من إجلاء الجميع. انهار كل شيء، وعندها حلّ الظلام”.
وتشرح أن صناعة السينما لا يمكن التعامل معها بوصفها ترفًا، خصوصًا في ظرفٍ لا يرى الناس فيه جدوى سوى للمقاومة، لأن الفن نفسه شكلٌ من أشكالها:
صنع فيلم عندما تكون هناك إبادة جماعية يبدو حقًا وكأنه امتياز. لكنه مهم بالنسبة لنا. مهم للجميع. وقد بدا الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأننا فنانون، وهذا ما نفعله.
تعتبر آن ماري التي درست في جامعة كولومبيا الأميركية، فيلمها الأخير المغامرة الأصعب في حياتها. لم تتخيل يومًا أنها ستنجزه في عامٍ مثقلٍ بالدم والعنف، لكنها رغم ذلك قامت بمغامرتها الإنتاجية المكلفة، متحدّيةً ظروفًا تُشبه المتاهة.
تدور أحداث الفيلم في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين في الثلاثينيات – مواقع التواصل
لأجل الفيلم، بنت آن ماري وفريقها قرية كاملة في الأردن، حيث تدور معظم الأحداث. وانطلق التصوير وسط صعوبات كبيرة، أبرزها القيود المفروضة على حركة الممثلين (معظمهم يقيم خارج المنطقة)، في ظل توسع العدوان الإسرائيلي ليشمل لبنان وإيران، وما نتج عن ذلك من إغلاقات متكررة للمجال الجوي خلال فترة التصوير.
🎥 فيلم “فلسطين 36”.. حقائق سريعة
🎞️ فيلم “فلسطين 36” هو رابع أفلام آن ماري جاسر الروائية الطويلة، بعد “ملح هذا البحر” (2007) و”لما شفتك” (2012) و”واجب”.
🎦 هو إنتاج مشترك لفلسطين وقطر وبريطانيا وفرنسا والدنمارك والسعودية والأردن.
🎞️ يشارك في بطولته الممثل البريطاني الحاصل على الأوسكار جيريمي آيرونز، إلى جانب جلال الطويل وهيام عباس وكامل الباشا وصالح بكري وياسمين المصري وظافر عابدين.
إلى جانب أفلامها الروائية التي نالت جوائز عديدة، تمتلك آن ماري جاسر رصيدًا من الأفلام الوثائقية والقصيرة، من بينها “كأننا عشرون مستحيل”، و”بعض فتات الطيور”، و”تاريخ ما بعد أوسلو”.
رحلة المهرجانات: من تورنتو إلى طوكيو
عُرض “فلسطين 36” للمرة الأولى في مهرجان تورنتو في سبتمبر/ أيلول الماضي ضمن عروض “غالا” الاحتفالية. هناك، وقف الجمهور مصفقًا لنحو عشر دقائق، مردّدًا هتافات مؤيدة لفلسطين.
عرض الفيلم أيضًا في مهرجان طوكيو السينمائي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وفاز بأرفع جوائزه: “جائزة طوكيو الكبرى”. ثم واصل الفيلم رحلته عبر مهرجانات عربية عدة، أبرزها مهرجان الدوحة السينمائي، ومهرجان البحر الأحمر في جدة، فضلًا عن مهرجاني مراكش وقرطاج.
كما اختير الفيلم ليمثل فلسطين في سباق الأوسكار العام المقبل، في فئة أفضل فيلم أجنبي غير ناطق بالإنكليزية.
شارك “فلسطين 36” في العديد من المهرجانات ونال جائزة مهرجان طوكيو الكبرى – مواقع التواصل
ينتهي فيلم “فلسطين 36” بقصيدة للشاعر الفلسطيني سليم النفّار (1963-2023)ـ الذي قُتل مع زوجته وبناته ونجله الوحيد في غارة إسرائيلية استهدفت منزله في حي النصر بمدينة غزة في السابع من ديسمبر/ كانون الأول 2023، خلال العدوان على القطاع.
تقول القصيدة:
في هذه الأرض الصغيرة
قد كبرنا
وتكاثرت من نهرنا
مِلل وأنساب
متفاعلن/ مُت فأعلِن
إيقاعَنا
والطائرات السافرات
لن تستطيع
أن نختلف
فيما تفسّره الحياة
سنظل قيثارة المعنى
ولو نامت على الأرض سماء
لا يبدو اختيار القصيدة اعتباطيًا، بل جزءًا بنيويًا من رسالة الفيلم نفسها: إنها تتكئ على “الإيقاع” بوصفه معنى للصمود، وعلى “قيثارة المعنى” بوصفها استعارةً لروحٍ لا تنكسر، حتى لو انطبقت السماء على الأرض.
تظهر القصيدة على الشاشة بعد نهاية الأحداث، إذ نرى الفتاة الناجية من المجزرة في قريتها، وهي تتجوّل في البلدة القديمة في القدس. ثم تبدأ بالركض، بوجهها الطفولي الجميل وشعرها الذي تتركه للريح، حتى تخرج من الكادر.
سرد درامي وصور أرشيفية
تأتي النهاية، بما تتضمنه من لقطات أرشيفية قصيرة، على درجة عالية من الشعرية. كأن الفيلم يقول إن على الفلسطينيين أن يواصلوا طريق الحلم وألا يغادروه أبدًا، رغم المؤامرة الكبرى التي ما انفكت تطردهم من أرضهم عامًا بعد آخر.
آن ماري جاسر خلال مشاركتها في مهرجان الدوحة السينمائي – مواقع التواصل
وإذا كانت نهاية الفيلم تنطوي على شعرية لا تخفى، فإن افتتاحيته تبدو واقعية أكثر مما يجب، وتوحي بالوثائقية. فيها، يعود الفيلم إلى عام 1936 حيث يظهر أحد أبطاله على متن قطار إلى القدس، ثمّ مشاهد للمندوب السامي البريطاني يعلن في احتفال جماهيري عن انطلاق أول محطة إرسال للإذاعة الفلسطينية من رام الله في مارس/ آذار 1936، بحضور ممثلين عن الفلسطينيين واليهود.
🎦 سياق فيلم “فلسطين 36”
🎞️ تدور أحداث الفيلم أساسًا بين قرية “بسمة” والقدس بشكل رئيسي، مع حضور ليافا الساحلية.
🎥 على المستوى البصري، يمزج الفيلم بين السرد الدرامي وصور أرشيفية جرى ترميمها، لتصبح جزءًا من الحكاية.
📽️ يسلّط “فلسطين 36” الضوء على أحداث ثورة عام 1936 ضد الانتداب البريطاني من خلال رحلة الشاب “يوسف”، الذي يتنقل بين قريته “بسمة” والقدس، حيث يعمل لدى أحد الأثرياء الفلسطينيين الذي يعمل في صناعة الصحافة والطباعة: “أمير” (ظافر عابدين)، والمتزوج من الصحافية “خلود” (ياسمين المصري).
في الفيديو المرفق تشاهدون حلقة سابقة من برنامج “بودكاست سينما سينما” تناولت فيلم “فلسطين 36” مع بطلة العمل ياسمين المصري:
قرية “بسمة” والعصابات الصهيونية
رغم وضوح مسار يوسف، لا يقدّم فيلم “فلسطين 36” بطلًا واحدًا مغلقًا، بل شبكة أحداث تتصاعد على مسارات متوازية. فإلى جانب الحدث الكبير المتمثل بتزايد موجات الهجرة اليهودية والاستيطان في فلسطين الانتدابية، تتناسل قصص أصغر تتضافر لتشكيل مشهدٍ درامي عريض.
وفي مقابل مشهد عمال ميناء يافا الذين يكتشفون بالصدفة أن السفن تهرّب شحنات أسلحة للعصابات اليهودية، يضع الفيلم مشهدًا آخر لقريةٍ وادعة تجاورها مستوطنة صغيرة (كوبانية) لا تتوقف عن التوسع والتسلح.
فلسطين 36 هو رابع أفلام آن ماري الروائية الطويلة – موقع مهرجان البحر الأحمر
من هذين الخيطين تتشكل حركة عمالية فلسطينية تطالب بالمساواة، وتتطلع إلى الثورة لتحقيق مطالبها: العمالية بزيادة الأجور؛ والوطنية بوقف الاستيطان.
أما في القرية التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون، فتنشأ بذور الثورة للدفاع عن النفس والوجود، مع تسارع الاستيطان وتواطؤ سلطات الانتداب، بل قمعها الفلاحين لصالح المستوطنين وخططهم.
في مقابل العمّال والفلاحين، تبرز القدس مدينةً مختلطة: جنود بريطانيون، مقاهٍ، صحف، ونخب فلسطينية بورجوازية “مترفة” وممزقة بين رفاه الحياة والتهديد الوجودي الذي يعانيه الفلاحون على أطراف المدينة المقدسة.
🎞️ثلاثة مسارات..
قصص صغيرة.. وأبعاد رمزية
✅ ثلاثة مسارات تدفع فيلم “فلسطين 36” إلى الأمام وتُراكم توتره:
✔️ تقدّم بذور الإضراب من عمال ميناء يافا؛
✔️ تشكل الخلايا المسلحة في الريف؛
✔️ احتدام النقاش حول مستقبل البلاد داخل أوساط النخب في القدس.
✅ إلى جانب الخطوط الكبرى، يضيف الفيلم قصصًا صغيرة تمنح البنية الدرامية أبعادًا رمزية:
✔️ من ذلك مسدس عثماني يكاد جنود الاحتلال البريطاني يعثرون عليه خلال تفتيش حافلة تقل أبناء القرية.
✔️ تلتقطه “رباب” (يافا بكري) وتخفيه أولًا في منزل أهلها، ثم تنقله إلى منطقةٍ قريبة من قريتها.
مسدس عثماني في أزقة القدس
المسدس نفسه، إلى جانب خيط الحب، سيجمع الفتاة صغيرة السن “عفراء” (ابنة رباب) ونجل قس الكنيسة.
ومع اشتداد الصراع، وبدء الإضراب العام واشتعال الثورة على سلطة الانتداب، تتغير مصائر الأبطال وتنكشف مواقفهم.
هكذا، يرفض سكرتير المندوب السامي، المرتبط بعلاقة صداقة مع “خلود”، المشاركة في التآمر على الفلسطينيين بعد صدور تقرير لجنة بيل الذي أوصى بتقسيم فلسطين. ثم ينسحب من المشهد كله بعدما يدرك أن اللعبة أكبر بكثير مما ظنّ أو راهن.
في موازاة ذلك، يغادر الثوار مربع التحضير والتنظيم، وينتقلون إلى الفعل. يفجّرون خط أنابيب النفط ويخربون خطوط السكك الحديدية. تُحاصر “بسمة”، القرية التي لم تعد وادعة منذ وصول المستوطنين. ويفجر الجنود البريطانيون أحد منازلها فيما الجد وزوجته في الداخل، وقد اختارا الموت على مغادرة البيت.
يعتقل الجنود عددًا من الرجال، بينهم قس القرية، ثم يفجّرون الحافلة التي كانت تقل المعتقلين، قبل أن ينسفوا القرية بأسرها. عندها تهرب “عفراء” إلى القدس، إلى أزقتها تحديدًا، كأن المدينة تصبح ملاذًا ومختبرًا للصراع الأخير.
هنا يعود المسدس إلى وظيفته الأولى: القتل والدفاع. يعثر عليه نجل القس، ويتوجه إلى القدس ليطلق الرصاص على الجنود البريطانيين.
بنت آن ماري وفريقها قرية كاملة في الأردن لتصوير فيلمها – مواقع التواصل
يحدث هذا بالتوازي مع عفراء، الجميلة، بشعرها الطويل، وهي تركض في أزقة المدينة القديمة نحو فضاء غامض، ربما حرية، ربما استمرار كفاح، ربما إفلات من موتٍ يطارد الجميع، وربما إعلاءٌ لمعنى الحياة نفسها. وربما لتكون هي “قيثارة المعنى” التي يلخّص بها الفيلم فكرة النضال الفلسطيني ودفاعه عن الوجود.
وفي أثناء ذلك، تختار “خلود” حرية شعبها، وتتخلى عن امتيازات طبقتها حين تنفصل عن زوجها الثري الذي تربطه علاقة مشبوهة بالحركة الصهيونية.
قيثارة المعنى الباقية
ثمّة “إيقاع” يحكم الفيلم من الداخل. “متفاعلن” كما تقول القصيدة التي يختم بها سليم النفّار العمل، إيقاعٌ يكشف عذابات الفلسطينيين ونضالاتهم المتواصلة.
كأنما عفراء تعبر الزمن من ثورة عام 1936 إلى العدوان على قطاع غزة، وهذا ما يفسر ظهور القصيدة على الشاشة بعد اختفائها وخروجها من الكادر.
كأن الفتاة الصغيرة، الجميلة، بشعرها الطويل، تعبر الأزمنة، من ماضي الفلسطينيّين في حقبة الانتداب إلى حاضرهم وراهنهم اليوم، كأنها “قيثارة المعنى” الباقية حتى لو انطبقت السماء على الأرض…

