أخذ البعض على حنين الصايغ هذا البقاء السردي ضمن الفضاء الدرزي والمرأة الدرزية، لكن لا يمكن القول إن هذا المأخذ مصيب تماماً، فلا يمكن إيجاز أجيال من النساء الدرزيات وقصص الجبل اللبناني في رواية واحدة وقصة امرأة واحدة. إن رواية واحدة لا يمكن أن تكفي لتنقل نضال أجيال من النساء المكافحات. إلى ذلك لا بد من القول إن روائيين كثراً قدموا في تاريخ الأدب أجزاء عدة للقصة الواحدة فجاءت رواياتهم في ثلاثيات ما زالت تقرأ وتدرس، منهم طبعاً ثلاثية نجيب محفوظ أو ثلاثية يوسف حبشي الأشقر وطبعاً ثلاثية الياس الخوري.

إن الفضاء الذي تستلهم منه حنين الصايغ سردها منهل هائل الحجم بالكمية والنوعية، فالقصص كثيرة وكثيفة وفي حاجة إلى من ينقلها ويتحدث بها ويحرر أهلها. تختار الصايغ في روايتها “ثمرة النار” أن تتنقل تاريخياً وجغرافيا، فهي تتأرجح بين 1960 و1970 و1975 و2022 و2023 وصولاً إلى الـ2024، وتنتقل من قرية عينصورة إلى ضيعة تل الخروب فبيروت فدبي فجونيه، بقفزات مشوقة تبني السرد وتبني معه طبائع الشخصيات وقصصها.

cd6555406a1663ef349c8f4244559ce0.jpg

الرواية الجديدة (دار الآداب)

ويمكن اعتبار تركيز حنين الصايغ على الفضاء الدرزي كإطار للسرد، نقطة إيجابية لصالحها تثبتها كاتبة من الصف الأول لهذه الطائفة ولهذا المجتمع. فالقضايا التي تطرقها لا تنحصر في المجتمع الدرزي وحده، بل على العكس، هي مشكلات المجتمع اللبناني المحافظ بأسره. تتطرق الصايغ في سردها ومن خلال شخصياتها إلى العلاقة الشائكة بالوالدين، والمشكلات التي يعانيها المرء مع الدين والحب والتابوات، موضوعات موجودة في المجتمع الدرازي، لكنها تتعداه إلى مختلف الفئات والطوائف. فتكتب الصايغ مثلاً وجع مجتمع بكامله يرفض الزواج بين طائفتين مختلفتين، عندما تقول: “كلنا منعرف شو مصير الحب بهالبلاد”.

حرب واحدة باستراتيجيات مختلفة

“تلك القرى البعيدة وسط الجبال التي يصفها سكان المدن بأنها هادئة ومطمئنة، لا تظهر قسوتها إلا لساكنيها”. تختار حنين الصايغ أن تنقل حروب نساء الجبل مع رجال حياتهن ومع الدين ومع الأنظام الثابتة المعلبة ومع التقاليد والأعراف في سرد سلس ممتع فيه من الشاعرية مما يخلق تشويقاً لدى القارئ. اختارت الصايغ أن تنقل في روايتها الأولى قصة نضال أمل لتتحرر من قبضة زوجها ومن قبله والدها، ثم نراها تختار في روايتها الثانية أن تنقل قصة حروب نبيلة، أم أمل، التي هي بدورها عانت الكثير في حياتها وخاضت معارك لا يمكن القول إنها خرجت منها سليمة.

يعشش الخوف في نفوس نساء حنين الصايغ منذ طفولتهن، مهما كان عمرهن أو وضعهن الاجتماعي. الابنة كشقيقتها كأمها كخالتها كجدتها كالنساء كلهن المحيطات بها، عشن حيوات مليئة بالخوف من الدين والرجل وأحكام الآخرين ونظرتهم، فتكتب الصايغ بصراحة موجعة وبعامية تعزز وقع الكلمات: “خلينا نعترف إنو ربينا عالرعب!”.

409eef32-be72-4324-9b97-52b47c8c9f78.jpg

الروائية حنين الصايغ (صفحة فيسبوك)

 

وبينما تختار أمل في الرواية الأولى الرحيل لتنال ما تريده فتتحرر من طريق العلم والسفر والمواجهة الذكية مع والدها علي وأهل الدين، تأتي نبيلة الوالدة في الرواية الثانية بطرقها الخاصة في النضال والتحرر إنما هذه المرة من داخل المجتمع. تجد نبيلة سبلها لتنال مآربها من زوجها ودينها ومجتمعها من دون أن تستفز ولا أن تقلق ولا أن ترحل، فتكتب الصايغ عن بطلتها: “تفادت نبيلة الصدامات مع الأعراف والقوانين دوماً من طريق تخطيط ذكي لمشاريعها وإيجاد حلول مسبقة لكل المشكلات”.

هل تنتصر الثمرة على النار؟

كما كان لافتاً عنوان الجزء الأول “ميثاق النساء” لعلاقته الوثيقة بكتب الحكمة عند الدروز، يلفت عنوان الجزء الثاني “ثمرة النار” بما يحمل من رمزية ودهاء روائي. طوال سردها، تبني حنين الصايغ شخصية بطلتها نبيلة وتبني خصائص وظيفتها الأساسية، وهي صناعة الخبز، لكنها تتخطى صناعة الخبز كوظيفة وتقيم موازاة بين العجينة وصانعتها. تتجلى هذه الحرفة طوال السرد كقدر نبيلة الذي لا مفر منه، وذلك منذ ولادتها. فنبيلة منذ أن نزلت من بطن أمها كادت تقع في النار، فتكتب الصايغ: “ماذا لو لم تولد على بعد شبرين من الموقد المفتوح؟ هل كانت لتصبح ثمرة نار وهل كان لكل هذا الاحتراق أن يصيبها؟” تتحول نبيلة على رغم عنها إلى ثمرة نار مثلها مثل عجينتها. ولا تقف الأمور عند هذا الحد، فطيلة حياتها تتصرف نبيلة كالعجينة هي التي: “وهي طفلة تختبئ داخل وعاء العجين”. وكأن مصير هذه البطلة صانعة العجين، هو أن تتحول إلى عجينة بدورها، عجينة تحترق في نار الحياة وصعابها.

إن التشابيه والصور المقامة بين البطلة نبيلة والعجينة أو ثمرة النار، موزعة على صفحات السرد كله، في لفتة ذكية ورابط تحالف تخلقه الكاتبة بينها وبين قارئها، فتكتب عن نبيلة: “باستسلام الطحين الناشف لأصابع العجان، ارتسمت الخطوط الأولى في شخصية نبيلة. وتكفلت الحياة بتزويد طحينها بالماء لتكتمل معالم تلك الشخصية ويسهم كل حدث في تشكيلها”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يلخص عنوان هذه الرواية الحرب القائمة على صفحاتها، فثمرة النار، التي هي نبيلة، تحاول في شتى الطرق أن تهادن النار وأن تجد منفذاً لها من سعيرها. ولنبيلة حيل واستراتيجيات كثيرة، ومن حيلها أنها تصنع الخبز وتبيعه لتعلم بناتها على رغم رفض والدهن ومجتمعهن لتعليم البنات. من حيلها أيضاً أنها تخلق شخصية ندى الإذاعية لتقدم وصفاتها إلى المستمعات وتبيع مؤنتها للراغبين. وأخيراً من أهم حيلها أنها تخلق شخصية “عاشقة الظل” على “فيسبوك” وتحادث من خلالها زوجها. تنتحل نبيلة شخصية فتاة شابة تتحدث إلى علي وتقنعه بما لا تستطيع نبيلة أن تقنع زوجها به في الحياة اليومية، لتتحول نبيلة، الثمرة، إلى نار تحيط بزوجها ومجتمعها وتعجنهما كما تشاء. ثلاث شخصيات تحارب كل منها على جبهة لتنال نبيلة غاياتها، ثلاث شخصيات تحاول ثمرة النار أن تحارب فيها مصيرها، فهل تنجو العجينة من الأتون؟ هل تغير الثمرة النار؟

أما السؤال المطروح في أواخر الرواية فيبقى السؤال الأهم في هذه الرواية وفي الأدب عموماً. هو السؤال الذي تطرحه أمل على نفسها حول حياة أمها: هل كانت نبيلة سعيدة؟ هل اكتفت بانتصاراتها الصغيرة؟ فتسأل: “أليس من الممكن أن تكون نبيلة قد اختارت بكامل إرادتها أن تعيش تلك الحياة؟ ألم تختر أيضاً أن تخلق عاشقة الظل وتعطيها شخصية وصوتاً ودوراً؟ ألم تختر أن ترضى بدقائق السعادة المعدودة في حياتها، وتتفنن في مدها على عمر كامل من الضجر بالمهارة نفسها التي كانت تمدد بها كتلة العجين لتحولها إلى رغيف واسع تقتات عليه كل العائلة؟”.

تفكر أمل في حياتها وتقارنها بحياة أمها، تقارن بين ما تعتبره هي سعادة، من سفر وعمل وتعرف إلى أناس جدد، وبين ما عاشته والدتها ولا بد من أنه شكل سعادة بالنسبة إليها، وتصل إلى استنتاج أن نبيلة عاشت سعيدة على الأرجح، فالسعادة نسبية وما يمكن أن يسعد شخصاً لا يشكل مصدر سعادة للآخر بالضرورة. فما يسعد الابنة لا يمكن أن يسعد أمها، وما ظنته أمل شقاءً كان انتصارات الثمرة على النار.

“ثمرة النار” رواية سردها سلس، قضاياها شائكة، نساؤها يشبهن القارئات بعلاقاتهن بأمهاتهن وآبائهن وأزواجهن.