لم يتردد حسن في اللجوء الى إحدى المؤسسات المعروفة في بيئته طالباً قرضاً صغيراً بعد الحرب الأخيرة بين حزب الله واسرائيل. فمنزله تضرر، وتقلّص دخله، والمصارف اللبنانية أقفلت أبوابها في وجهه منذ سنوات. فما كان سيخدمه ببساطة هو تأمين مبلغ يساعده على الوقوف مجدداً على قدميه، مقابل رهن ذهب خبّأه ليومٍ أسود كالذي يمر به. هذا ما تقدمّه جمعية القرض الحسن: قروض ميسّرة مقابل ضمانات مالية وعينيّة مثل الذهب.

لكن خلف هذه الخدمة الاجتماعية، تختبئ قصة أكبر، شغلت المجتمع الدولي الذي ينظر إلى هذه المؤسسة على أنها تمارس أنشطة تمويل جهات مصنّفة إرهابية، بالإضافة إلى القيام بمعاملات مالية خارج الإطار القانوني المضبوط. الأمر الذي أكده الخبير الاقتصادي والنائب اللبناني رازي الحاج، في حديثه مع موقع “الحرة”، مشيرا الى أن “هذه الجمعية حصلت على علم وخبر من وزارة الداخلية اللبنانية، لكنها تقوم بأعمال مخالفة للنظام الداخلي وتمارس أعمال مصرفية ومالية منصوص عليها بقانون النقد والتسليف من دون ترخيص من مصرف لبنان.”

نشاط ماليّ كبير

تأسست جمعية “القرض الحسن” في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعد الاجتياح الاسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت عام 1982، وتقدّم نفسها كمؤسسة خيرية تُقرض جميع اللبنانيين من دون فوائد. إلا أنها تُدار بشكل مباشر من قبل “حزب الله” اللبناني، وتعمل تماما خارج النظام المصرفي التقليدي ورقابته. فنظريا، بحسب الصحافية الاقتصادية عزة الحاج حسن، فإن “هدف القرض الحسن اجتماعي بحت، إذ تقدّم خدمات مالية لما يقارب 300 ألف عميل. لكن عملياً، لا يحق لها أن تقوم بممارسات مالية، من المفترض أن تكون محصورة بالمؤسسات المالية والمصرفية، مثل أخد إيداعات مالية من عملاء وإعطاء قروض وبيع وشراء ذهب بدون ترخيص.”

المؤسسة التي يزيد عمرها على 40 عاماً، كانت تقوم بعملها تحت نظر الدولة اللبنانية طيلة هذه السنوات، ما سمح بتوسّع نشاطها ليصل إلى أكثر من 34 فرعاً في مناطق محسوبة بغالبيتها على حزب الله. وتشير أرقام غير رسمية إلى أن حجم نشاط “القرض الحسن” يبلغ نحو 3  مليارات دولار سنويّا، بينها 500 مليون دولار قروض صغيرة، مع تداول نحو 15  طنّا من الذهب، وارتباط 100 ألف مودع و200 ألف مقترض بها. “هذا النوع من المؤسسات وبهذا الحجم لا تقدر الدولة على التعامل معه وحلّ مشكلته بين ليلة وضحاها.” تقول الحاج حسن للحرة.

تضييق الخناق على حزب الله

منذ العام 2007 فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على مؤسسة “القرض الحسن” قائلة إن جماعة حزب الله تستخدمها غطاء لإدارة “أنشطة مالية ومنفذاً للوصول إلى النظام المالي الدولي. إضافة إلى استهداف إسرائيل لعدد من مقراتها خلال حربها الأخيرة مع حزب الله في لبنان، إذ تُعتبر هذه الجمعية بمثابة ذراع مالية للحزب لا تقل أهمية عن الذراع العسكرية. والأمين العام لحزب الله نعيم قاسم كان قد حذّر، في نوفمبر الماضي، الحكومة اللبنانية من الاقتراب من القرض الحسن، عندما زاد الحديث عن توجّه لإقفال المؤسسة، في إطار وضع لبنان على سكة التعافي المالي واستعادة الثقة الدولية به.

أما بالنسبة للدولة اللبنانية فيُعدّ هذا الملف من أكثر الملفات المالية حساسية حيث “شكّل عمل الجمعية واحد من أبرز الأسباب الأساسية التي دفعت مجموعة العمل المالي (FATF)  إلى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. أي ضمن الدول الخاضعة لتدقيق خاص في قدرتها على مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.” بحسب ما أكدت الحاج حسن للحرة. لذلك فإن وقف أعمالها المخالفة ومعالجة وضعها يعد شرطاً أساسياً لإعادة الثقة الدولية بلبنان. وقد بدأت رحلة ضبط عمل هذه المؤسسة مع إصدار مصرف لبنان تعميماً في يوليو الماضي يقضي بمنع المصارف والمؤسسات المالية وشركات الوساطة من التعامل مع كيانات غير مرخصة، وعلى رأسها “القرض الحسن” . خطوة استكملت بمباحثات ونقاشات داخل كواليس السلطات اللبنانية حول ضرورة إغلاق “القرض الحسن”.

وجهان لعملة واحدة

يقول حسن لـ”الحرة” إنه تفاجأ بأن الفواتير الصادرة بعد إنجاز معاملته لم تعد باسم “القرض الحسن” بل باسم مؤسسة تُدعى “جود”، مع تبدّل الآلية من رهن الذهب إلى معاملتيْن تجاريتيْن: الأولى شراء الذهب مقابل فاتورة رسمية، والثانية إعادة بيعه له بالتقسيط وبفاتورة أيضاً. تجربة فردية، لكنها تعكس مساراً أوسع يثير تساؤلات حول ما إذا كان حزب الله يسعى لاستبدال “القرض الحسن” بكيان قانوني بديل.

وفي هذا الإطار، تقول عزة الحاج حسن، المطلعة على تفاصيل الملف، إن الحزب يحاول التكيّف مع الضغوط الأميركية على الدولة اللبنانية لضبط مسارات الأموال، فعمل على ترخيص مؤسسة تجارية باسم “جود” لبيع وشراء الذهب من دون إيداع أموال. وبهذا، يحافظ على الطابع الاجتماعي للخدمات، ويقدّم في الوقت نفسه مظهرًا من الشفافية يتماشى مع المتطلبات الرقابية، كما تؤكد.

وتضيف إن خدمة “القرض الحسن” بصيغتها الحالية لن تستمر، بل ستُجزّأ مهامها، بحيث يُرخص لكلّ خدمة على حدة وتخضع لرقابة الأجهزة المعنية، مؤكدة أن أيّ نشاط خارج الرقابة لن يستمر. أما مدى جدية هذا المسار واستمراريته فمرتبط بأداء الدولة اللبنانية وبحجم تجاوب الحزب، مشيرة إلى أن الصرافات الآلية مرشحة للإقفال وفق المعطيات المتوافرة.

التحايل على العقوبات

تحاول السلطات النقدية والمالية محاصرة “القرض الحسن” تقنيّا، عبر إجراءات تتصل بمكافحة “اقتصاد الكاش”. ويؤكد مصرف لبنان أنه غير معني بالرقابة المباشرة على الجمعية لأنها لا تخضع لسلطته، ويقتصر دوره في هذا الإطار على إصدار تعاميم تمنع المصارف وشركات التحويل من التعامل مع مؤسسات غير مرخصة. أما وزارة المال، فتقرّ بخطورة الملف لكنها تُحيل المواجهة المباشرة إلى وزارة الداخلية والحكومة. وفي المقابل، يظهر اسم “جود” كواجهة جديدة لواقع قديم عزز منطق الدولة ضمن الدولة. وفي هذا الإطار، يقول النائب رازي الحاج للحرة إنه “لو تم ترخيص مؤسسة مالية جديدة، لا يمكن أن تكون الأموال مجهولة المصدر، وإلا فهي ستصبح عمليّا مؤسسة مرخّصة لتبييض الأموال. وبالتالي لن يفيد تغيير الإسم في ظل عدم الامتثال الكلي للمعايير الدولية ومعايير مصرف لبنان لمكافحة الإرهاب وتبييض الأموال.” مضيفا إن “الأمر يحتاج الى مراقبة عن كثب وإلا لن يستطيع لبنان الخروج من اللائحة الرمادية لا بل سيكون مهدداً بالسقوط في اللائحة السوداء إذا لم يستطع وضع معايير واضحة للملف المالي والنقدي ولملف الاقتصاد الموازي وتبييض الأموال، في ظل إشارة تقارير دولية إلى أن حزب الله لا يزال قادرا، بطريقة أو بأخرى، على الحصول على تمويل يتخطى الـ70 مليون دولار شهريّا أي ما يقارب المليار دولار سنويا”.

كلّ ذلك وسط استبعاد مراقبين موافقة الولايات المتحدة، التي تدقق وزارة خزانتها بالتفاصيل المالية اللبنانية، هي التي تقول بوجوب إغلاق “القرض الحسن” وليس تغيير الشكل والإبقاء على الأصل قائماً.