من شأن بعض الانزلاقات اللفظية أن تثير الاشتباه بالقناعات المخبوءة في رؤوس أصحابها. هذا ما جرى مثلا عندما أدلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريح عابر تسبب وقتها في إحراج الإليزيه الذي أصدر استدراكا عليه. جاء تصريح ماكرون في اجتماع عقده لمجلس وزرائه يوم 24 مايو/ أيار 2023، وقال يومها في سياق تعليقه على جريمة طعن؛ إن فرنسا تشهد “عملية نزع حضارة” (Un processus de décivilisation)، فأصدر الإليزيه توضيحا للتنصل من شبهة الارتباط المحرج بأكثر نظريات المؤامرة العنصرية رواجا.
ألقت باريس الرسمية بتصريح ماكرون الإشكالي من النافذة، لكن العبارة المشحونة عادت من جديد عبر البوابة العريضة على الجانب الآخر من الأطلسي.
إنها إستراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة (2025) التي أحدثت دويا حول العالم، وفيها نص واضح على أن أوروبا على موعد محتمل مع “محو الحضارة” (civilizational erasure)، مع ربط ذلك بالهجرة والتغيرات الديمغرافية التي قد لا تجعل “أوروبا أوروبية”، كما ورد فيها.
تتعزز شبهة تبني نظريات مؤامرة من واقع خطاب الإدارة الأميركية الحالية في بعض الملفات، وقد ضمنت شيئا من ذلك في وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الجديدة، التي تنكر التغير المناخي وتعده مجرد “أيديولوجيا”.
تعزيز “العظمة الأوروبية”
تضع إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة ضمن أولوياتها “تعزيز العظمة الأوروبية”، وإن صار هذا التعبير مستساغا في واشنطن العاصمة فإنه يسترجع في بعض العواصم الأوروبية ظلالا كئيبة من ماضيها القاتم، فقد راجت هذه التعبيرات في الأنظمة الفاشية البائدة التي حولت القارة إلى رماد وأطلال. يبدو مفهوما أن تأتي من برلين تحديدا أولى إشارات الانزعاج من هذه الإستراتيجية الجديدة بعد نشرها.
وفي سياق تعزيز “العظمة الأوروبية” تقرر الوثيقة الإستراتيجية أن أوروبا تشهد “احتمالا حقيقيا وأكثر وضوحا لمحو الحضارة”، وأن القارة “ستصير غير قابلة للتمييز خلال عشرين سنة أو أقل”. وتعلن الإدارة الأميركية في إستراتيجيتها أنها “تريد أن تبقى أوروبا أوروبية، وأن تستعيد ثقتها الحضارية بنفسها”.
وبعد أيام قليلة من نشر الوثيقة ظهر دونالد ترامب وفيا لمضامينها هذه في حوار متلفز أجرته معه صحيفة “بوليتيكو”، واستأنف هجومه المألوف على عمدة لندن المسلم صادق خان، الذي يبدو أحد وجوه أوروبا غير المرغوبة حسب منطق ترامب.
نشرت فالاتشي في سنة 2001 كتابها: “الغضب والفخر” (La rabbia e l’orgoglio)، الذي قدمت فيه أطروحات تحريضية ضد المسلمين في قالب نظرية مؤامرة تزعم أنهم يعتمدون أسلوب “السيطرة الديمغرافية” على الغرب
خلفيات مقولة “محو الحضارة”
رغم الدوي العالمي الذي أحدثته مضامين إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة، فإن مقولة “محو الحضارة” الأوروبية لم تحظَ باكتراث جاد في الأيام الأولى من صدور الوثيقة، رغم ارتباطها بنظريات مؤامرة عنصرية شهيرة وجملة من الأفكار والتصورات الأيديولوجية المتصلة بها.
هل كان الكاتب الفرنسي رينو كامو ليتصور على الأرجح أن مصطلح “نزع الثقافة العظيم” (La Grande Déculturation) أو “نزع الحضارة” (Décivilisation) الذي صاغه سيتسلل إلى إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة يوما ما؟
أورد كامو المصطلح في سياق نظرية مؤامرة طورها حملت اسم “الاستبدال العظيم”، أو “الاستبدال الكبير” (Le Grand Remplacement)، تناولها في كتب أصدرها تباعا بدءا من سنة 2010.
إن ما يجعل هذه الأطروحة نظرية مؤامرة على نحو مؤكد أنها لا تقتصر على تضخيم الهواجس من مؤشرات ديمغرافية مزعومة تعرض بشكل محبوك للتخويف من مكونات سكانية معينة ذات طابع مستجد تاريخيا على أوروبا؛ فالأطروحة توحي بوجود سلطة خفية تنفذ مؤامرة معينة في هذا الاتجاه.
لم تنهض هذه النظرية من فراغ، فقد مثلت تتويجا لسلسلة من نظريات المؤامرة العنصرية والخيالات الأيديولوجية المتطرفة التي تضافرت في العقود الأخيرة وألهمت أوساطا في الحياة السياسية والمدنية عبر أوروبا والعالم الغربي، وصارت محفزا لقوى سياسية وجماعات جماهيرية ومنصات إعلامية ومنابر شبكية، ولمنفذي اعتداءات إرهابية ذات دافع عنصري أيضا.
فقد فعلت هذه النظرية فعلها برؤوس مقترفي أشهر المذابح والاعتداءات العنصرية في الدول الغربية، ومنها مذبحة النرويج (2011)، ومذبحة نيوزيلندا (2019).
مثلت أعمال ومرافعات متعددة إرهاصات لنظرية “الاستبدال الكبير”، فقد تراكمت مصطلحات عدة منذ مطلع القرن الـ21 من قبيل “عَوربة أوروبا” أو “أسلمتها”، كما جاء مثلا في أعمال الكاتبة والصحفية الإيطالية المخضرمة أوريانا فالاتشي، والكاتبة جيزيل أوريبي، المسماة لاحقا جيزيل ليتمان، التي ظلت تكتب بالاسم العبري المستعار؛ بات يئور، أي “بنت النيل” باعتبار مولدها لأسرة يهودية مصرية.
من المفارقات في سيرة أوريانا فالاتشي انعطافتها الحادة في الآراء والمواقف من ناشطة يسارية تقليدية إلى منظرة يمينية متطرفة محرضة ضد المسلمين، مستغلة حدث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 لتسويغ ذلك.
نشرت فالاتشي في سنة 2001 كتابها: “الغضب والفخر” (La rabbia e l’orgoglio)، الذي قدمت فيه أطروحات تحريضية ضد المسلمين في قالب نظرية مؤامرة تزعم أنهم يعتمدون أسلوب “السيطرة الديمغرافية” على الغرب.
حقق الكتاب رواجا مذهلا، خاصة مع صدوره بعيد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، فبيعت من إصداره الإيطالي الأصلي أكثر من 700 ألف نسخة خلال أسبوعين فقط. صعدت أوريانا فالاتشي في السنوات اللاحقة خطابها المؤامراتي، فأصدرت سنة 2004 كتابها: “قوة العقل” (La forza della ragione)، الذي ركز على ادعاء “أسلمة أوروبا عبر العامل الديمغرافي”، ويشير مصطلح “الأسلمة” هنا إلى وجود برنامج موجه أو عملية منظمة.
التزمت فالاتشي بهذا الانجراف حتى وفاتها سنة 2006، بل إنها اعتبرت أن “يورابيا”، أي أوروبا المُعوربة، ليست مآلا مستقبليا فهي قائمة بالفعل، أو حسب تعبيرها: “أوروبا لم تعد أوروبا، فهي الآن يورابيا، مستعمرة إسلامية” كما قالت لصحيفة “وول ستريت جورنال” سنة 2005.
هكذا تكتسب العبارات التي تدفع بها أميركا الجديدة عمقا تأويليا جسيما، فما أعلنته الإدارة الأميركية في إستراتيجيتها الجديدة يمثل استعادة محتملة لهذا المعنى من وجه معين، فقد ورد في وثيقة الأمن القومي أن الولايات المتحدة “تريد أن تبقى أوروبا أوروبية” (We want Europe to remain European)، وأن “تستعيد ثقتها الحضارية بنفسها”.
أما جيزيل ليتمان فخرجت في سنة 2005 بكتابها: “يورابيا: المحور الأوروبي – العربي” (Eurabia: The Euro-Arab Axis) الذي زعمت فيه أن أوروبا استسلمت للإسلام وتخضع له. تطور استنادا إلى كتابات ليتمان مصطلح “أورابيا” Eurabia ، أو “عوروبا” في بعض الترجمات، ليشكل نظرية مؤامرة رائجة في أوساط المتطرفين اليمينيين ومعادي المسلمين ومناهضي التنوع الثقافي في أوروبا، وروجت لهذه الأطروحات المؤامراتية منصات دعائية داعمة للاحتلال الإسرائيلي أيضا.
وعلى منوال هذه الأعمال صار من المألوف منذ منتصف العقد الأول من هذا القرن أن تظهر لافتات جماهيرية في مسيرات التحريض العنصري تحت عناوين تناهض ما تسميه “أسلمة أوروبا”، أو تحذر من “أورابيا” المزعومة تلك، ثم انساحت هذه المضامين عبر الشبكات ومواقع التواصل، وصارت لها منصات متعددة اللغات مختصة بضخ المحتوى العنصري والتحريضي المشبع بالهوس المؤامراتي.
لم يتوقف الاستلهام عند حدود التظاهر والتحريض، فقد قدحت نظريات المؤامرة العنصرية شرارة العنف الإرهابي في بعض المحطات، كما جرى مع النرويجي أنديرس بريفيك الذي ارتكب عملية تفجير في قلب العاصمة النرويجية أوسلو، ثم مذبحة مروعة أوقعت 69 قتيلا في مخيم صيفي لرابطة الشبيبة العمالية يوم 22 تموز/يوليو 2011.
حرر بريفيك كتابا من ألف وخمسمائة صفحة ترافع فيه عن أفكاره التحريضية ضد حاملي خلفية هجرة، على أن ما جاء به هو استرجاع تجميعي لأفكار تحريضية منشورة، فاستعمل في كتابه مصطلحات منها “أورابيا” Eurabia وذكر مثلا أن هدفه هو “منع الانتحار الثقافي للقارة الأوروبية”.
تكشف وقائع كهذه عن جوانب من المفعول الدموي والتدميري لنظريات المؤامرة العنصرية والتحريضية في الواقع، وإن ظل أثرها التخريبي الأوسع يطال الالتزام بالمبادئ والقيم في الأوساط والمجتمعات والأنظمة الموبوءة بها.
ألهمت هذه الأفكار المؤامراتية، علاوة على نموذج بريفيك العملي ذاته، مقترفي اعتداءات آخرين لجؤوا إلى محاكاة السابقة النرويجية في المنطلقات والشعارات وطريقة التنفيذ المصورة، كما تجلى في مذبحة كرايستشيرتش ضد رواد مسجدين في نيوزيلندا يوم 15 مارس/ آذار 2019، وفي سلسلة أخرى من الاعتداءات الدموية على منوالها في العمق الأوروبي.
مقولات “الانتحار الحضاري”
على مقربة من هذه الأيديولوجيا العنصرية ظهرت أعمال في دول أوروبية حظيت برواج واسع جدا، انصبت على إثارة هلع الشعوب من أن بلادها “تنتحر حضاريا”؛ بسبب حضور مكونات مجتمعية معينة محسوبة على خلفية هجرة.
تعتمد حيلة هذه الأعمال على فكرة مفادها أن التنوع المجتمعي يمثل “انتحارا” أو “أفولا” أو “سقوطا” أو “غزوا” أو نهاية مأساوية تقوض هوية الأمة وحضارتها وثقافتها، خاصة بالنظر إلى الهجرة من العالم العربي والإسلامي وبلدان “الجنوب العالمي” عموما.
تكمن حبكة مثيري الهلع في أنهم عندما يصورون الواقع بهذه المأساوية فإنهم يحرضون الجمهور المذعور على التخلي عن “ترف” الالتزام القيمي والمبدئي والأخلاقي ما دام الأمر يتعلق بصراع وجود مفترض.
من العناوين التي تصدرت واجهات العرض في متاجر الكتب الأوروبية خلال العقدين الماضيين، برز كتاب تيلو ساراتزين مثلا، المسمى: “ألمانيا تلغي ذاتها” (Deutschland schafft sich ab) الذي أحدث دويا هائلا لدى صدوره سنة 2010.
تصدر الكتاب قوائم أكثر الكتب مبيعا في ألمانيا خلال سنتين من صدور طبعته الأولى، فقد بيعت منه 1.5 مليون نسخة وقتها، وصار محورا لجدل مديد.
ظهر كتاب ساراتزين بعد أربع سنوات من صدور كتاب: “مرحى، نحن نستسلم!” (Hurra, wir kapitulieren!) للكاتب الألماني هنريك برودر المناهض للمسلمين والتنوع الثقافي، الذي ادعى فيه أن “أوروبا تخضع” لمن وصفهم بالإسلاميين. حقق الكتاب الصادر سنة 2006 مبيعات هائلة وأثار نقاشا واسعا حينها بشأن مزاعمه.
وعلى ضفاف السين ظهر كتاب: “الانتحار الفرنسي” (Le suicide français) سنة 2014، وبيعت منه مئات آلاف النسخ في شهور قليلة. مؤلف هذا الكتاب ليس سوى إريك زمور الذي يعد من أبرز مروجي نظرية رينو كامو “الاستبدال العظيم” في الوسط السياسي والإعلامي الفرنسي.
يعبر زمور في كتاباته وإطلالاته التلفزية ومواقفه السياسية عن نزعة شعبوية طافحة وكراهية متأصلة للتنوع وعداء صريح للمسلمين تحديدا، علاوة على أنه من مناهضي الهجرة إلى فرنسا، رغم أنه ينحدر من أسرة يهودية هاجرت من الجزائر.
أسس زمور حزب “الاسترداد”، بمعنى استرداد فرنسا وهويتها، استيحاء من أيديولوجيا “الاستبدال العظيم” العنصرية، ثم خاض السياسي العنصري انتخابات الرئاسة الفرنسية سنة 2022 تحت شعارات تنضح بالكراهية والتحريض.
جدير بالملاحظة أن بعض المقولات التي تقدم في الوسط السياسي الأوروبي المحسوب على الاعتدال تشحن بدلالات تآمرية تجعلها لا تبتعد كثيرا عن حزمة النظريات والأطروحات سابقة الذكر.
تظهر ضمن هذا الصنف مقولة “الإسلام السياسي” التي تتبنى حكومات وأحزاب أوروبية التحذير منه وتجعله توطئة لسياسات وإجراءات في الداخل الأوروبي، تتضمن عريضة اتهامية بأنه يسعى بصفة دؤوبة إلى “السيطرة” على البلاد و”أسلمتها” وتقويض ثقافتها، وأنه يتحايل بإظهار القبول بالديمقراطية والانفتاح على النظام العام لأجل “التغلغل”.
ومما يستدعي التأمل أن المنطق التآمري الذي يشحن به مصطلح “الإسلام السياسي” في الداخل الأوروبي يسري أساسا على مساجد وجمعيات ورياض أطفال واختيارات في اللباس ومظاهر ثقافية، بمعنى أنه قابل لأن يمس عموم المكون المسلم وينعته بالتآمر لأجل “أسلمة البلاد” و”تهديد الديمقراطية”، ودعم “الانفصالية” وإقامة “مجتمعات موازية”.
المتشائمون من الديمغرافيا
تنضح جملة الأعمال سابقة الذكر بنزعة تشاؤم كامنة في وجدان أطياف من النخب الأوروبية والغربية من عواقب التحولات الديمغرافية القادمة عبر جنوب المتوسط، وها هو التشاؤم يطل برأسه على الجميع من وثيقة الأمن القومي الأميركية الجديدة أيضا.
من المعبرين المبكرين عن هذه النزعة التشاؤمية الروائي جان راسبيل في روايته: “معسكر القديسين” (Le Camp des Saints)، التي صدرت بالفرنسية سنة 1973، ثم ترجمت إلى لغات عدة.
تقول الحكاية إن موقفا تخيليا حفز راسبيل على نسج روايته تلك، عندما استبد به التشاؤم في لحظة تأمل بينما كان في الريفيرا الفرنسية سنة 1971. جاء أن الخيال جمح به بعيدا يومها وهو ينظر نحو الأفق البعيد في البحر المتوسط وتهيأ له أن الأمواج تحمل إليه غرباء، فأثار حديث النفس سؤالا لديه: ماذا لو جاؤوا إلينا من عالم الجنوب؟
تدور أحداث الرواية المتخيلة حول انهيار الحضارة الأوروبية والغربية تحت تأثير هجرة كثيفة من العالم الثالث إلى فرنسا والعالم الغربي. شهد العمل الأدبي رواجا استثنائيا متأخرا، بعد عقود من صدور طبعته الأولى، حتى إنه صعد في بعض مواسم القرن الـ21 ضمن قائمة أكثر الكتب مبيعا، واحتفت به وبترجماته أوساط التطرف اليميني ومناهضو المسلمين في الدول الأوروبية والغربية، ويبدو أن الرواية ألهمت نظريات المؤامرة التي تتصل بموضوعها.
دفع مروجو الخيالات التآمرية الخصبة بكتبهم ورواياتهم ومضامين مرافعاتهم سنة بعد سنة، على منوال “أسلمة أوروبا” و”يورابيا” و”الاستبدال العظيم”، وإن لم تسفر هذه المصطلحات عن ذاتها صراحة.
ظهرت هذه الدعاوى في أعمال أبرز الأسماء الأدبية في فرنسا، كما يتجلى في رواية: “الخضوع” (Soumission) للروائي الفرنسي المتصدر ميشال ويلبيك، الصادرة مطلع سنة 2015.
عبرت روايته تلك بصفة أمينة عن خيالات الانتحار الحضاري والرضوخ الثقافي المزعوم للمسلمين، فقد نسج أحداثها حول مرشح مسلم، هو شخصية متخيلة يدعى “محمد بن عباس” يتزعم حزبا سماه الروائي: “الأخوة الإسلامية”، وأنه فاز في الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2022، فباشر “أسلمة فرنسا”، وحول السوربون العريقة إلى “جامعة إسلامية”، وفرض على أساتذتها اعتناق الإسلام أو الفصل من المهنة، وأشاع تعدد الزوجات، وألزم النساء بتغطية شعورهن والبقاء في المنزل أو مغادرة البلاد، بينما اضطر يهود فرنسا إلى الهجرة نحو فلسطين المحتلة.
لا عجب أن يحتفي إريك زمور بهذه الرواية التي تمثل صياغة أدبية حاذقة لأطروحاته العنصرية الفجة. على أن ويلبيك المعروف بنزعته العدمية لم يكتفِ بنسج الروايات التحريضية؛ فقد أطلق سلسلة تصريحات مناهضة للمسلمين يتهم فيها “الغرب” بالضعف والخنوع في مواجهة الإسلام، وكان مما قاله أن “المهاجرين المسلمين هم سبب المشكلات والأزمات” في فرنسا، وأن “رغبة الفرنسيين الأصليين، كما يقال، ليست في أن يندمج المسلمون، بل أن يتوقفوا عن سرقتهم ومهاجمتهم، وإلا فهناك حل آخر هو أن يغادروا”، كما ذكر خلال محاورة أجرتها مجلة “فرون بوبولير” ونشرتها على حلقات مرئية بدءا من 25 يناير/ كانون الثاني 2023.
لا يقتصر الأمر على أديب محرض، فالمعضلة تبدو أكثر تفاقما لدى ملاحظة أن ميشال ويلبيك يعد من محظيي جوقة الحكم ومنصات الثقافة والإعلام في فرنسا، حتى إن الرئيس ماكرون قلده يوم 18 أبريل/ نيسان 2019 أرفع وسام تمنحه الجمهورية هو “ليجيون دونور” أو “جوقة الشرف”، وكال المديح لأعماله في كلمة ألقاها في المناسبة التي أقيمت مراسمها في قصر الإليزيه بحضور كبار رجال الدولة ومعهم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.
جدير بالنظر أن ساركوزي عندما كان وزيرا للداخلية نعت شبان الضواحي المحسوبين على خلفية هجرة بأنهم “حثالة” (2005) وكان ذلك في سياق منافسة شعبوية للفوز بالرئاسة التي تمكن منها فعلا، والمفارقة أنه انتهى إلى السجن لاحقا بعد عشرين سنة من تصريحه.
تمنح الحفاوة البالغة بميشال ويلبيك وأشياعه انطباعا رصينا بأن أطروحات التشاؤم من التنوع الثقافي، إلى حد حبك نظريات مؤامرة، لا تلقى مقاومة جادة في مستويات النخبة السياسية، بل لعل هذه الأطروحات قد ترسخت بحق في أذهان بعض الصفوة السياسية ووجدانها، حسب ما قد يفهم من مقولة ماكرون المحرجة سنة 2023 التي صرح فيها بأن فرنسا تشهد “عملية نزع حضارة”.
على أن هذه الأطروحات أو ما يتواطأ معها أو يعززها ظهرت أيضا في الوسط الفكري والأكاديمي وليست على هوامشه فقط كما قد يحسب. يشار مثلا إلى أطروحة عالم السياسة الأميركي البارز صامويل هنتنغتون خلال تسعينيات القرن العشرين “صدام الحضارات” (Clash of Civilizations) التي قدمها ابتداء في معهد “أميركان إنتربرايز” المقرب من “المحافظين الجدد”.
أتاحت أطروحته هذه فرصا للتأويل والتوظيف والإلهام في اتجاهات صراعية تتذرع بالحضارة أو الثقافة أو الدين استنادا إلى تقسيم متعسف للعالم اقترحه هنتنغتون على أسس حضارية وثقافية ودينية منغلقة.
أما برنارد لويس فانضم إلى خطابات التحذير من التنوع الثقافي والديمغرافيا المسلمة في أوروبا، ليس فقط بفضل خطابه الاستشراقي المشبع بمركزية غربية وموقفه المتحامل على الإسلام وثقافات المسلمين؛ بل أيضا جراء تبنيه فكرة أن الأقليات المسلمة في أوروبا ستصير أغلبيات لا محالة، وأنها ليست مؤهلة للاندماج في هذه البيئات، وأن أوروبا ستصير مع نهاية القرن الـ21 إسلامية، كما ذكر في مقابلة مع صحيفة “دي فيلت” الألمانية، منشورة في 19 أبريل/ نيسان 2006.
وانخرط المؤرخ الأميركي والتر زئيف لاكوير، ذو الميول الصهيونية، في جوقة الزج بالعامل الديمغرافي المتعلق بالمسلمين في سياق تنظيره لأفول أوروبا، كما جاء مثلا في كتابه الصادر سنة 2007 بعنوان: “أيام أوروبا الأخيرة: مرثية لقارة قديمة” (The Last Days of Europe: Epitaph for an Old Continent).
يبدو الخطاب “الثقافوي” ونظيره “الديمغرافوي” المتذرع بالمؤشرات السكانية ضالعا في إذكاء المخيال التآمري كما يفصح عن ذلك ساسة بارزون أحيانا، منهم رئيس الجمهورية التشيكية ميلوش زيمان الذي أقدم في كلمته بمناسبة عيد الميلاد سنة 2015 على وصف حركة اللجوء وقتها بأنها “غزو منظم”، ثم ذهب في مقابلة إذاعية بعد أيام من ذلك (4 يناير/ كانون الثاني 2016) إلى نسج نظرية مؤامرة محددة بقوله: “أرى أن الإخوان المسلمين هم من نظموا هذا الغزو بتمويل مادي من مجموعة من الدول”، وأن هذه الجماعة لا تمتلك قوة لشن حرب ضد أوروبا لذلك “لجأت إلى سبل أخرى مثل موجة الهجرة كي تحكم أوروبا بشكل تدريجي”.
إن هذا الادعاء المنفلت من عقاله يقدم ذريعة لسياسة متصلبة في التشيك ودول أخرى في وسط أوروبا رفضت بصرامة استقبال أي من طالبي اللجوء المسلمين، دون غيرهم، ولم تتردد في استقبال أعداد غفيرة من اللاجئين الأوكرانيين.
تصرف أميركي بمقتضى الإستراتيجية الجديدة
ما دفعت به إستراتيجية الأمن القومي الأميركية في هذا الشأن ليست كلمات معزولة، فهي تمثل إطارا نظريا يفسر مواقف وتصريحات متضافرة صدرت عن وجوه الإدارة الأميركية الحالية، وعلى رأسهم ترامب ذاته.
لا يتعلق تقدير الوثيقة الإستراتيجية في هذا الشأن بأوروبا وحسب، فمنطقها يسري بالأحرى على الولايات المتحدة ذاتها، التي تخوض إدارتها حملة ضارية ضد المهاجرين والمقيمين بصفة غير نظامية.
أما اعتبار المهاجرين من عالم الجنوب تهديدا حضاريا فيلتقي مع تصريحات الازدراء الفجة التي أدلى بها ترامب بحق الوجود الصومالي في الولايات المتحدة قبيل صدور الوثيقة الإستراتيجية، التي بلغت حد نزع الصفة الإنسانية عن الصوماليين.
كما تجود وثيقة الأمن القومي الجديدة بتفسير منهجي لمواقف وتصريحات مبعثرة أصدرها الرئيس الأميركي وجوقته، من قبيل تعبيرات الهجوم والازدراء المتلاحقة التي استهدف بها دونالد ترامب عمدة لندن المسلم صادق خان، وكذلك هجومه الشديد على زهران ممداني قبيل فوزه القوي بمنصب عمدة نيويورك.
إن اتكاء إستراتيجية الأمن القومي على نظرية مؤامرة عنصرية أو مجاراة استنتاجاتها على الأقل، يبدو تأطيرا نظريا لتوجه واضح لدى العهد الأميركي الجديد يسعى فيه إلى تعزيز مكانة أقصى اليمين السياسي والنزعات الشعبوية والاتجاهات العنصرية في البيئات الأوروبية.
تستبشر الوثيقة في هذا الشأن بصعود قوى أقصى اليمين والأحزاب والجماعات المحسوبة على اليمين المتطرف عبر أوروبا، فتذكر مثلا أن “النفوذ المتزايد للأحزاب الأوروبية الوطنية يبعث على التفاؤل الكبير”.
تنتقد الإستراتيجية ما تصفه بالتضييق على “الديمقراطية الحقيقية” وحرية التعبير في أوروبا، و”تقويض تلك الحكومات للعمليات الديمقراطية”، وأنها “حكومات أقلية غير مستقرة يدوس كثير منها على المبادئ الأساسية لقمع المعارضة”.
تتبنى إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة توجها واضحا للتأثير على الخرائط السياسية الداخلية في دول أوروبا لتعزيز نفوذ اليمين المتطرف وتيارات أقصى اليمين الشعبوية، وتعزيز فرصه في الصعود إلى الحكم عبر القارة. ومن أولويات السياسة الأميركية العامة نحو أوروبا كما يأتي فيها “تنمية مقاومة المسار الحالي لأوروبا داخل الدول الأوروبية”.
هكذا تؤطر الوثيقة الإستراتيجية مواقف متلاحقة صدرت عن أركان الإدارة الأميركية، من قبيل اللقاء الذي عقده جيه دي فانس، نائب الرئيس الأميركي، في فبراير/شباط 2025 قبيل الانتخابات العامة الألمانية مع أليس فايدل، زعيمة حزب “البديل” الواقف على أقصى يمين الساحة السياسية في الجمهورية الاتحادية. اخترق اللقاء محظورا أو “تابو” راسخا وبدا تعبيرا عن أميركا الجديدة التي لا تتردد في التلاعب بالساحة الداخلية لحلفائها.
تحفز الوثيقة إنعاش الهويات الوطنية للبلدان الأوروبية على حساب الاتحاد الأوروبي الذي تتجاهله الوثيقة كشريك محتمل، ولا تذكره إلا بصفة سلبية، فمن القضايا الكبرى التي تواجه أوروبا “أنشطة الاتحاد الأوروبي وغيره من الهيئات العابرة للحدود الوطنية التي تقوض الحرية السياسية والسيادة”، كما جاء فيها.
لم تترك إستراتيجية الأمن القومي الجديدة مجالا للتردد بأن أميركا الجديدة تتبنى خطاب اليمين المتطرف في ملفاته الأساسية: الهجرة والهوية والجريمة والتنوع الثقافي، وتغترف من جهازه المفاهيمي المشبع بالغلو، حتى إن الوثيقة تحدد من بين القضايا الكبرى التي تواجه أوروبا “سياسات الهجرة التي تغير وجه القارة وتثير الصراعات”.
لا ينبغي لذلك أن يمثل مفاجأة على أي حال، فقد عرف ترامب بصلاته الوثيقة مع رموز الحالة اليمينية والشعبوية البريطانية، مثل بوريس جونسون ونايجل فاراج، وكذلك مع زعماء أوروبيين محسوبين على أقصى اليمين مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.
برز في هذا السياق أيضا إيلون ماسك، الداعم القوي لترامب ثم المنشق عنه، فقد ظل من قبل ومن بعد يدعم اليمين الأوروبي المتطرف بوضوح من خلال إطلالات مباشرة، كما جرى في المسيرة المتطرفة ضد الهجرة التي نظمها الناشط العنصري تومي روبنسون يوم 13 سبتمبر/ أيلول 2025 فقد أطل ماسك بمقابلة معه عبر الشبكة تضمنت تحذيرات من واقع “هشاشة الحضارة”، وكيف أن السياسات الرسمية في بريطانيا تقوم “بتدمير البلد”، وذهب إلى حد تحريض الجمهور البريطاني على العنف بقوله: “سواء اخترتم العنف أم لا فإن العنف سيأتي إليكم. فإما أن تقاتلوا أو تموتوا، هذه هي الحقيقة”.
وأتاح ماسك من قبل فرصة ظهور استثنائية لزعيمة حزب “البديل” أليس فايدل عندما استضافها بحفاوة على منصة “إكس” التي يملكها ضمن حملتها للانتخابات الألمانية الأخيرة (2025). تنزلق منشورات ماسك باطراد إلى خطاب اليمين المتطرف في أقصاه، وبالوسع تعقب عبارات في كلماته ومنشوراته تمنح الانطباع بأنها مستلهمة من نظريات المؤامرة العنصرية البيضاء.
الأيديولوجيا العنصرية في ثوب جديد
لا غنى في تقدير خطورة بعض المضامين عن استحضار السياق التاريخي، ذلك أن النزعات العنصرية ما عادت منذ أواسط القرن العشرين تقتدر على الإفصاح عن ذاتها بالكيفيات التقليدية المعهودة سابقا وباستعمال المنطق السلالي واللوني المتهافت، ما يفرض على حضورها الجديد في الوسط السياسي أو الإعلامي العريض “مين ستريم” أو في فضاء المجتمع الدولي، أن يتدثر بمقولات إيحائية وتعبيرات رمزية وصياغات محبوكة.
تتخير التوجهات العنصرية والاستعلائية الجديدة تغليف ذاتها بصياغات منتقاة بعناية في زمن مسيج بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين والقانون الإنساني الدولي وحزمة مواثيق ودساتير وإعلانات دولية وإقليمية ووطنية وكثير من شعارات الحقوق والحريات المعلنة في الأرجاء.
أعلن العالم بعد الحرب العالمية الثانية نبذ العنصريات السلالية واللونية التقليدية، بينما تشتغل هيئات دولية ومنظمات أممية وآليات رصد وتعقب واستقصاء في فضاء هذه المواثيق والمقولات المبدئية. ضيقت هذه المستجدات على فرص الإفصاح عن توجهات العنصرية والكراهية والتحريض قياسا بزمن الأذرع الممدودة في الميادين والخطابات الفاشية المتأججة على المنصات واستعراضات العسكرة والتعبئة المعهودة في زمن “الأبيض والأسود”.
لا عجب أن تجد بعض خطابات العنصرية والتحريض اليوم حيلتها في التواري خلف مصطلحات مضللة ومفردات رمزية ومقولات محبوكة من قبيل “نزع الحضارة”، لأنها تختزن حمولة دلالية تغني عن الإفصاح الساذج عن مضمون عنصري تقليدي.
ثم إنها تتعمد إثارة الهلع من تحولات الثقافة والاجتماع والديمغرافيا؛ فتقرع النواقيس من “الأفول الوشيك” و”الانتحار الحضاري” و”الخضوع الثقافي” و”فوات الأوان” كي تبرر بنبرة التخويف الوجودي حملة الإجهاز الضارية على بعض القيم والمبادئ المعتبرة ومقتضيات المواثيق والدساتير المغلظة.
من شأن ذلك أن يثير تساؤلا منطقيا عن المدى الذي كانت ستذهب إليه القيادة الأميركية لو أنها وجدت في زمن صعود الفاشيات البائدة، وكيف ستبدو شعاراتها الصريحة حينها وسياساتها وبرامجها ومواقفها وتصريحاتها، وهي التي تخرج بانزلاقات مذهلة حتى في الزمن المحفوف بالكوابح الميثاقية والمسيج بالضوابط المؤسسية والقيمية والأخلاقية؟!
تبقى الخلاصة التي لا غنى عنها، أن الانتحار الحضاري والأفول الثقافي قابل للتوقع حقا لكن عبر مقاربة مختلفة، ترى ذلك مآلا حتميا للاندفاعات الهوجاء التي تهيل التراب على القيم والمبادئ والشعارات الإنسانية والأخلاقية، وتمعن في إسقاط المواثيق والقانون الدولي، علاوة على ضلوعها في إسناد إبادة جماعية مبثوثة على الهواء مباشرة والتستر عليها والتماس الأعذار لها، ومعاقبة هيئات العدالة الدولية التي تجرؤ على التحقيق بها.
بكلمة أخرى، فإن “أميركا الجديدة” وأي من الأمم الغربية تنتحر حضاريا وتأفل ثقافيا إن خضعت للهوس العنصري وانقادت لبرنامجه تحت عناوين: “العودة عظيمة مجددا”. وقد ينزلق القوم إلى هاوية متجردة من القيم والمبادئ وإن بقوا في صدارة القوة العسكرية والمنعة الإستراتيجية كما ترجو وثيقة الأمن القومي الجديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
