حين ينطق الصمت
بينما كانت تزيل طلاء أظافري قبل أيام، رفعت خبيرة التجميل ريم رأسها وسألتني بتلك النبرة الهادئة، الواقعية، التي غالبًا ما يتخذها الاستسلام اللبناني:
«هل تعرفين ماذا يعني أن تغادري منزلك صباحًا ولا تعرفي إن كان سيبقى قائمًا عندما تعودين إليه مساءً؟»
كان ذلك بعد ظهر الثاني من ديسمبر، اليوم نفسه الذي غادر فيه البابا لاون الرابع عشر لبنان. كانت المفارقة – أو بالأحرى التهديد الواضح – حادة إلى حد كان يمكن أن يجرح الجلد: فمع صعود طائرته في السماء، عادت الطائرات المسيّرة الإسرائيلية، التي باتت تحلّق فوق بيروت كفألٍ ميكانيكي، إلى نوبتها، وكأن السماء نفسها تعلن: البابا غادر. استعدوا.
لم أقل لها: بالطبع أعرف يا ريم.
لم أقل: وُلدت في سبعينيات القرن الماضي، في بيروت مثقوبة بالشظايا والخوف.
لم أستعرض قائمة الفظائع التي شكّلت طفولتي: الملاجئ، الحواجز، الليالي التي كانت تُقطَع بدويّ القنابل أكثر انتظامًا من أغاني النوم.
هناك أشياء نحن، من خبروا الحروب، لم نعد نصرّح بها. نكتفي بالإيماء، ويقوم الصمت بالباقي.
تعيش ريم في الضاحية الجنوبية لبيروت. في أكتوبر 2024، مُسحت شقتها: لم تتضرر، لم تتصدع، بل مُحيت بغارة جوية إسرائيلية، كما تُمحى كلمة قرر محرر صارم أنها لا تنتمي إلى النص. كانت متزوجة منذ ستة أسابيع فقط. كانت حياتها الجديدة لا تزال مغلّفة بالسيلوفان: هدايا زفاف لم تُفتح، مطبخ لم تطهُ فيه بعد، وسرير ما زال يحتفظ برائحة الشراشف الجديدة.
كل شيء اختفى.
قصتها ليست فريدة. إنها مجرد مقطع آخر في السجل الطويل، المُرهِق، الذي يواصل اللبنانيون كتابته رغماً عنهم.
في تلك الليلة نفسها، وبينما كنت أحدث صديقتي ديان عن ريم على كأس من النبيذ، انفجرت ديان غضبًا – ليس على ريم، بل على الظلم الكامن في كل ذلك، وعلى التوزيع غير العادل للمخاطر، وعلى الصدوع السياسية التي تشق صداقاتنا من الداخل.
قالت بانفعال:
«هذا هو الولاء الذي اختارته هي ومن معها من الشيعة. على الأقل هي تدفع ثمن خيارها. أما أنا، فأدفع ثمن شيء فُرض عليّ!»
كان ابن ديان الوحيد قد غادر لبنان نهائيًا مع عائلته في سبتمبر من العام الماضي، بعد حرب جديدة استنزفت ما تبقى لديه من أمل. تحوّل حزنها إلى غضب متصلّب؛ غضب لا يجد منفذًا سوى الاتجاه جانبياً، نحو أي شخص يقف في مرمى خيبة أملها.
قالت بصوت متكسر:
«سأموت وحيدة الآن، لأن ريم تؤمن بكذبة المقاومة المقدسة. لذا، من فضلك، قولي لها أن تصمت».
علّقت كلماتها في الهواء: قاسية، مجروحة، غير منصفة، وإنسانية تمامًا.
ثمنٌ يدفعه الجميع
لأن هذا هو الشرخ الآخر في لبنان: ليس فقط بين الجماعات المسلحة والقوى العسكرية، ولا فقط بين الصواريخ والطائرات المسيّرة، بل بيننا نحن.
بين من جرى تلقينهم ليشعروا بأن «المقاومة» تحميهم، ومن يشعرون بأنها تسجنهم.
بين من يرون في الموت واجبًا أخلاقيًا، ومن يرون فيه عقيدة قاتلة متنكرة في هيئة «معركة عادلة».
بين من يخسرون أبناءهم «من أجل القضية»، ومن يخسرون أبناءهم بسبب الهجرة.
الجميع هنا يدفع ثمنًا. لكن ليس الجميع وافق على الصفقة. ولهذا، حتى تعاطفنا صار سياسيًا. حتى حزننا صار له مذهب. وحتى صداقاتنا تحمل ارتجافًا خفيًا تحت جلدها.
لم أستطع أن أقول لديان إن تصنيفها تعميمي، وإن ليس كل الشيعة من أنصار حزب الله. لم تكن في حالة تسمح لها بتغليب العقل على الحزن الذي كان يلتهمها.
ولم أقل لها إن صديقتي الأخرى زينب، طبيبة طوارئ من ضاحية شيعية، أكثر سخطًا من حزب الله مما هي. إنها مرهقة، لا نظريًا، بل جسديًا، حرفيًا.
تقول لي زينب دائمًا:
«أقسمت أن أبقى. أقسمت أن هذا البلد يستحق أفضل. لكن في كل مرة أنتهي فيها من خياطة جسد مزقته قذيفة، أتساءل… لماذا؟ ولأجل من؟»
ومع ذلك، تبقى. تبقى لأن الرحيل سيخون شيئًا لا تزال عاجزة عن تسميته.
هناك من يقاوم لا بالسلاح، بل بالحضور؛ ذاك النوع الصامت والعنيد الذي يمنع بلدًا من الانهيار الكامل.
في مار مخايل، يهز ميكانيكي السيارات أبو وليد كتفيه، بتلك الطريقة اللبنانية التي تمزج الفخر بالقدرية، بينما يغيّر زيت المحرك:
«إذا انفجر المكان، سأصلحه، كما فعلت بعد 4 آب. وإذا انفجر مرة أخرى، سأصلحه مجددًا. أنا كبير في السن على الهجرة، وعنيد أكثر من أن أستسلم».
ثم هناك دائمًا المراهقون. تلك الكائنات الغريبة الجميلة التي ورثت صدماتنا، لكنها ترفض حملها بثقلنا.
سمعت مجموعة منهم في الحمرا تضحك على الطائرات المسيّرة في السماء:
«إذا اندلعت الحرب مجددًا، على الأقل لن نقدّم امتحان الرياضيات».
الفكاهة السوداء هي طوق نجاتهم. لكن تحت الضحك، تكمن فطنة جيل يدرك عبثية هذا المكان وصلابته في آن واحد.
وأخيرًا، هناك ابن عمي سامر – فكل قصة لبنانية لا بد أن تضم سامرًا، المتفائل الذي لا يكلّ.
يقول لي على فنجان قهوة:
«هذا البلد لن يموت. مات مرات كثيرة بما يكفي. استنفد كل جنازاته».
يؤكد أن تصدعات المجتمع تفرض نقاشات طال تجنبها، وتدفع الناس لرؤية بعضهم بلا وهج الأساطير الطائفية.
يثق بالاغتراب الذي، رغم ألمه، لا يزال يغذي لبنان بولاء عائلي عنيد.
ويؤمن بأننا، وللمرة الأولى منذ زمن طويل، نملك فرصة حقيقية بفضل نزاهة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الحاليين.
قد يكون واهمًا.
أو قد يكون الوحيد العاقل بيننا.
الوجود في وجه الفناء
لأن الحقيقة – الصعبة، المخجلة، الرقيقة – هي أن لبنان اليوم مكان يجتمع فيه النزوح والصمود في آن واحد.
الناس يرحلون جماعات، لا لأنهم بلا حب، بل لأن الحب وحده لا يبدد الخوف ولا يعيد بناء البيوت.
أما من يبقون، فيفعلون ذلك بدافع الواجب، أو العناد، أو العجز، أو الحب، أو الأمل – وأحيانًا كلها معًا.
البلد يتشقق تحت الضغط، لكن داخل هذه الشقوق يلمع شيء آخر: رفض الاختفاء.
وهنا يصبح لبنان عصيًا على الفهم لمن لم يعشه في عظامه.
فبينما تخسر ريم شقتها، وتخسر زينب نومها، وتحترق ديان بغضب لا يمكن احتواؤه، ويُبقي الآباء حقائبهم نصف مغلقة في العتمة… تلمع بيروت.
كل يوم، يفتح مطعم جديد في العاصمة، كأن فن الطهو هو بديلنا عن الفعل السياسي.
كل يوم، يرتفع مبنى جديد: سريع، لامع، غير مكترث، كأن الإسمنت مضاد اكتئاب وطني.
أضواء الميلاد تلتف حول أعمدة الإنارة، الشرفات، الأشجار.
أحياء كاملة تبدو وكأنها قررت أن «البقاء» فعل متواضع، وأن الاحتفال هو الرد الوحيد اللائق على اليأس.
ليس هذا إنكارًا. أو ربما هو كذلك.
لكنه أيضًا استراتيجية: محاولة شعب التفاوض مع الهلاك، خداعه، إغوائه، تشتيته بالترتر.
فكيف يمكن العيش هنا غير ذلك؟
كيف يمكن التنفس في بلد تفوح من أحد أزقته رائحة الكستناء المحمصة والنبيذ الساخن، ومن الزقاق التالي رائحة البارود والغطرسة الطائفية؟
كيف يمكن التوفيق بين أفق تملؤه الأبراج الجديدة وأحياء أشباح على بعد كيلومترات جنوبًا؟
وكيف يمكن تفسير أن يفقد شخص منزله في الليلة نفسها التي يقرع فيها آخرون كؤوس الشمبانيا في حانة مرتفعة تطل على مدينة لا تعرف إن كانت تموت أم تعيد اختراع نفسها؟
لبنان اليوم ليس بلدًا واحدًا.
إنه اثنان على الأقل؛ متراكبان، متعايشان، متناقضان، متصادمان.
لبنان الخوف: الطائرات المسيّرة، التهديدات، الاشتباكات على الحدود، حسابات المسافة من «الأهداف المحتملة»، النقاشات الهامسة حول نزع سلاح حزب الله، والرعب الصامت من حرب شاملة جديدة.
ولبنان الحيوية الشرسة، شبه الوقحة: مطاعم محجوزة بالكامل، حانات مكتظة، معارض تفتح، شباب يرقصون، مستثمرون يبنون، وأصحاب متاجر يزيّنون واجهاتهم كأنهم ينتظرون من بابا نويل أن يتوسط لوقف إطلاق النار.
لو كان للجنون عاصمة، لتقدمت بيروت بطلبها بفخر.
يسمي الأجانب هذا «صمودًا».
يسميه اللبنانيون «يوم ثلاثاء».
نعيش حالة انقسام شعوري دائم: عين على السماء تحسبًا لعودة المسيّرة، وأخرى على إنستغرام لمعرفة أي مكان جديد يستحق الزيارة قبل أن يُدمّر.
هذا ليس فصامًا بالمعنى الطبي، بل الوجودي: بلد يعيش واقعين متناقضين في الوقت نفسه، وكل منهما يصر على حقيقته.
أمة أتقنت فن الاحتفال وهي في حداد، والبناء وهي تنهار، والأمل وهي تتهيأ للفرار.
ومع ذلك، تكمن في هذا التشظي بالذات الإشارة الوحيدة الحقيقية إلى قدرة لبنان على الاستمرار.
فالحياة الليلية والركام ليسا نقيضين.
المطاعم والخرائب ليسا تناقضًا.
هما الرئتان اللتان لا يزال هذا المكان المنهك يتنفس بهما: واحدة تلهث، والأخرى تغني.
دولة بين قوتين متصارعتين
لكن لا يمكن لأي تحليل لمخاوفنا أو آمالنا أن يتجاهل القوتين اللتين تحتجزان لبنان رهينة: اليقين المسلح لحزب الله، والرعب الصناعي لإسرائيل.
عملاقان عالقان في أساطيرهما الخاصة، ونحن – المدنيون، والدولة الرهينة – مسحوقون في المنتصف، نكنس شظايا يقيناتهما عن حياتنا.
يخبرنا حزب الله أن سلاحه «يحمينا»، بينما نعلم نحن – وهم – أنه ليس سوى جيش بالوكالة لإيران.
ثم إن الحماية التي لا تطلب موافقة ليست حماية؛ إنها وصاية، والوصاية شكل مهذب من أشكال السيطرة.
يرفض حزب الله تخيّل لبنان لا تكون فيه بنادقه عمود الهوية الوطنية الفقري.
وأصبح رفضه نزع السلاح حالة استثناء دائمة، تبريرًا لكل تهديد خارجي وكل شلل داخلي.
ونُطلب منا أن ننحني شكرًا لعيشنا تحت «درع» يتحول في الوقت نفسه إلى سقف منخفض، ثابت، خانق.
أما إذا كان سلاح حزب الله يسرق وكالتنا السياسية، فإن عنف إسرائيل المتواصل يسرق أنفاسنا بالكامل.
فماذا نسمي دولة أتقنت فن العقاب الجماعي؟
وماذا نسمي جيشًا يقصف البيوت والمدارس وسيارات الإسعاف وأحياء بأكملها، ثم يسمي ذلك دفاعًا عن النفس؟
وماذا نسمي طائرات مسيّرة تحوم فوق نوافذ غرف النوم كملائكة موت معدنية، تختار أهدافها بالخوارزميات بدل الضمير؟
تنشر إسرائيل الرعب بكفاءة باردة لمؤسسة توقفت عن رؤية البشر على الجانب الآخر من حدودها.
والرسالة واحدة دائمًا: نستطيع الوصول إليكم. نستطيع محوكم. نستطيع أن نجعل شارعكم، مبناكم، وجودكم، يختفي.
وهكذا نعيش بين مطلقين: أحدهما يدّعي أنه منقذنا، والآخر يصرّ على أننا قابلون للاستبدال.
محاصرون بين حزب مسلح بأجندة إيرانية يرفض تخفيف قبضته عن البلد، وقوة احتلال ترفض رفع يدها عن السماء.
لبنان لا يُحكم؛ بل يُعصر. بعناد داخلي وعدوان خارجي. بميليشيا تعتقد أنها تملك تعريف المقاومة، وبقوة عسكرية ترى في الخوف شكلاً مشروعًا من أشكال الدبلوماسية.
ومع ذلك، وبطريقة ما، نستمر في الوجود. منهكين، محبطين، لكن غير ممحوين، بفضل الغريزة اللبنانية غير القابلة للقتل: غريزة الاستمرار.
ليس «البقاء». فهذه كلمة صغيرة وسلبية. بل الاستمرار. أي أننا، رغم كل شيء، نواصل. نواصل الإنجاب، والوقوع في الحب، والزواج، والطلاق، وتربية الأطفال، ورفع الكؤوس، ورفع الحواجب سخرية من عبث كل ذلك. نواصل سرد حكاياتنا: همسًا في صالونات التجميل، صراخًا في المستشفيات، مزاحًا في ساحات المدارس، سُكرًا في الحانات، وعنادًا في المتاجر التي تُرمم للمرة الثالثة أو الرابعة. نواصل لأن ماهو البديل؟
الفناء؟
الصمت؟
الخضوع؟
لا. لبنان قلق أكثر من أن يموت، متناقض أكثر من أن يختفي، متشقق أكثر من أن ينهار بالكامل، وفريد أكثر من أن يُرمى جانبًا (وهذا ليس تعصبًا لبنانيًا). يعيد اختراع نفسه لا لأن ذلك نبيل، بل لأنه ضروري. لأن هذا البلد يعرف، أكثر من أي بلد أعرفه، أن الموت قد يكون حالة مؤقتة. نعم، الناس يرحلون. على دفعات. بالدموع، وبالخجل، وبالحنين.
ونعم، الناس يبقون. بالغضب وبالاستسلام وبالحب
ونعم، نحن متعبون: تعب العظام، وتعب الروح، وتعب المستقبل.
لكن التعب ليس هزيمة والخوف ليس استسلامًا والأمل ليس فناءً.
في مكان ما بين الشقق المدمرة في الضاحية، والحانات الجديدة على أسطح الجميزة؛ بين طبيبة الطوارئ التي تخيط اللحم، والمراهقين الذين يضحكون على الطائرات المسيّرة؛ بين غضب ديان الحارق، وتفاؤل سامر العنيد…لا يزال بلد يصرّ على أن يحدث.
لبنان حي. ليس بسهولة ولا بسلام ولا بانسجام. لكنه حي. ولليوم، ولهذه اللحظة، هذا يكفي.
