بُعيد وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، بدأت تتبلور ملامح مقاربة أميركية–إسرائيلية جديدة تجاه لبنان، تقوم على إعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي عبر الدفع باتجاه “حصر السلاح بيد الدولة”، وتعزيز دور الجيش اللبناني بوصفه القوة الشرعية الوحيدة، مقابل الحد من “نفوذ حزب الله” وقدرته العسكرية.
ويأتي ذلك ضمن تصوّر استراتيجي أوسع ينظر إلى الجنوب باعتباره ساحة اختبار لإمكانية إعادة هندسة ميزان القوى الداخلي في لبنان. وتعتمد هذه المقاربة على مسارين متوازيين: الأول عسكري – أمني يقوم على الضغط الميداني واستخدام القوة أو التلويح بها لردع حزب الله وتقويض قدراته، والثاني سياسي – اقتصادي يقوم على الدعم المشروط للجيش والمؤسسات اللبنانية، والضغط الدبلوماسي الدولي لتقييد نشاطه، وإعادة تعريف وظيفة قوات اليونيفيل بحيث تتحوّل تدريجيًا من قوة مراقبة إلى عنصر مساعد في عملية نزع السلاح أو ضبطه.
وفي جوهر هذا التوجّه، تسعى واشنطن وتل أبيب إلى خلق بيئة سياسية وأمنية، تُجبر الدولة اللبنانية على تحمّل مسؤولية مباشرة في ضبط السلاح أو دفع ثمن سياسي داخلي في حال امتناعها.
وبذلك، يتّخذ المشهد مسارًا يتراوح بين خيارين متناقضين: إما نجاح سياسة “السلام المفروض بالقوة” عبر فرض توازن جديد يحدّ من دور حزب الله، أو تحوّل الضغط المُنسّق إلى عامل تسريع الانهيار السياسي والأمني، ودفع لبنان نحو خيارات أكثر حدّة يصعب احتواؤها.
وفي هذا النص، عرض للبرنامج الأمريكي الإسرائيلي الذي يسعى إلى إخضاع لبنان، من خلال طرح السياسات والآليات، كما كرونولوجيا لأبرز الإجراءات منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني / نوفمبر من العام الماضي، وإبراز الأهداف الرئيسة، المخاطر والسيناريوهات المحتملة.
أوّلًا: كرونولوجيا الإجراءات الرئيسية (ت2 2024-ك 1 2025)
_ 27 تشرين الثاني / نوفمبر 2024: توقيع اتفاق وقف إطلاق النار والذي مثّل بداية مرحلة اختبار قدرة الدولة اللبنانية على إدارة ملف السلاح، مع إبراز هشاشة المؤسسات أمام الضغوط الإقليمية، وفتح المجال أمام الولايات المتحدة والكيان لإعادة رسم توازن القوى.
_تشرين الثاني / نوفمبر وكانون الأول / ديسمبر 2024، إجراءات إسرائيلية أمنية وميدانية مركّزة: بعد معركة “أولي البأس”، تضرّرت قدرات حزب الله، ما منح الولايات المتحدة و”إسرائيل” فرصة لإعادة ترتيب المشهد العسكري والسياسي في لبنان. نفّذ الكيان المؤقت عمليات مركّزة استهدفت مواقع ادّعت أنها تابعة لحزب الله، بهدف إعادة تثبيت ميزان القوة والحفاظ على الضغط المستمر على المقاومة، ما أبرز محدودية قدرة الدولة اللبنانية على ضبط الملف الأمني بشكل كامل.
_كانون الثاني / يناير 2025، الولايات المتحدة توسّع المساعدة الأمنية للبنان: أعلنت واشنطن حزمة مساعدات أمنية للجيش اللبناني تجاوزت 117 مليون دولار، لدعم تنفيذ ترتيبات “وقف الأعمال العسكرية” وتحجيم قدرات حزب الله. هذه الخطوة عزّزت قدرة الدولة اللبنانية جزئيًا، لكنها أظهرت الاعتماد المستمر على الدعم الخارجي لضبط الساحة الداخلية.
_آذار/ مارس – حزيران / يونيو 2025:
1)إصدار السفارة الأمريكية تحذيرات أمنية وإجراءات مرتبطة بزيادة مستوى التوتر الإقليمي، مثال: تنبيه/أمر مغادرة لذوي الموظفين غير الطارئين.
2)طرح مبادرة أمريكية عبر المبعوث توماس براك تتضمن خارطة طريق لنزع سلاح حزب الله مقابل تعليق الضربات الإسرائيلية ضمن إطار زمني محدد.
_تموز / يوليو وأغسطس / آب 2025، تزايد الضغوط الاقتصادية: انتقال الضغط نحو البعد الاقتصادي؛ والحديث عن تدهور اقتصادي حادّ مرتبط بقيود مالية وضغوط تستهدف بنية تمويل حزب الله.
_أيلول / سبتمبر 2025: موافقة الحكومة اللبنانية على الخطة المتعلقة بنزع السلاح قبل نهاية العام، دون ضمانات تنفيذية واضحة.
_ تشرين الأول / أكتوبر وتشرين الثاني / نوفمبر 2025:
1)استمرار الضربات الإسرائيلية رغم الاتفاقات الدبلوماسية، بهدف الإبقاء على الضغط العسكري.
2)فرض وزارة الخزانة الأمريكية (OFAC) عقوبات على أفراد وشبكات مالية اتُّهمت بتحويل أموال من إيران إلى حزب الله عبر النظام المالي اللبناني.
ما يعكس الجمع بين البعدين العسكري والاقتصادي لتعزيز النفوذ الأمريكي–الإسرائيلي.
_ تشرين الثاني / نوفمبر وكانون الأول / ديسمبر 2025:
1)رسالة أمريكية–إسرائيلية بأن الوقت ينفد، وأن السياسة الانتقالية لن تستمر بلا نتائج ملموسة.
2)الضغط المكثّف، حيث أُلغيت زيارة قائد الجيش اللبناني إلى واشنطن، وتم توجيه انتقادات أميركية له، مع التّشديد على وجوب نزع السلاح أو مواجهة تبعات ذلك.
3)اغتيال الحاج هيثم علي الطبطبائي في 23 تشرين الثاني / نوفمبر 2025، مثّل تصعيدًا للضغط العسكري.
وبالتالي، بقي لبنان في حالة اختبار دائم لقدرة الدولة والمقاومة، مع فرض سياسة تدريجية لإعادة هندسة التوازن الداخلي.
ثانيًا: الضغط المركّب وإعادة هندسة ميزان القوة
ترتكز السياسة الأمريكية–الإسرائيلية تجاه لبنان على مقاربة تدريجية مركّبة توظّف أدوات الضغط العسكري، السياسي والاقتصادي بصورة متزامنة، بهدف إعادة تشكيل ميزان القوة الداخلي. وتستهدف هذه المقاربة نقل حزب الله من موقع الفاعل الردعي المؤثّر في المعادلة اللبنانية–الإقليمية إلى عبء استراتيجي على الدولة، عبر ضغوط مستمرة تشمل؛ ضربات عسكرية موضعية، رسائل دبلوماسية تصعيدية، وربط أي دعم اقتصادي أو مالي للبنان بشروط تتّصل مباشرة بدور الحزب ومستقبل سلاحه.
لا تُطرح هذه السياسة كاستجابة ظرفية لتطوّرات ميدانية، بل كجزء من مسار طويل الأمد لإعادة ضبط البنية الأمنية والسياسية في لبنان والمنطقة. ويتمثّل هدفها المركزي في إنتاج بيئة داخلية تدفع نحو تسوية أمنية–سياسية تُفضي إلى احتكار الدولة لاستخدام القوة، بما يفتح المجال أمام ترتيبات إقليمية لاحقة تتوافق مع المصالح الأميركية والإسرائيلية.
تقوم الاستراتيجية على توزيع منظّم للأدوار؛ إذ تتولّى “إسرائيل” إدارة الضغط الميداني والتلويح بالتصعيد العسكري، بينما تدير الولايات المتحدة المسار السياسي والدبلوماسي. ولا تعمل الدبلوماسية هنا كبديل عن القوة، بل كرافعة لها، حيث يُستخدم التصعيد العسكري لفرض شروط تفاوضية، وتُستثمر القنوات الدبلوماسية لتأمين غطاء سياسي وقانوني لأي تصعيد محتمل.
وتبقى نتائج السياسة رهينة التفاعلات الداخلية اللبنانية: فإذا ترافقت الضغوط الخارجية مع تحوّلات سياسية داخلية، قد يتحوّل الضغط إلى إخضاع سياسي فعلي؛ أما في حال استمرار الانقسام الداخلي ورفض تعديل معادلة السلاح، فستبقى السياسة في إطار إدارة الصراع دون بلوغ تسوية حاسمة.
وعليه، تعبّر السياسة الأميركية عن نموذج “الاحتواء المشروط”، حيث يُعاد تعريف دور الدولة اللبنانية بوصفها شريكًا سياديًا محدود الصلاحيات، تُمنح له أدوات دعم انتقائية مقابل التزامه بأولويات أمنية إقليمية محددة. ويأتي ذلك ضمن تحوّل بنيوي في إدارة النفوذ الأميركي في غرب آسيا، حيث لم يعد لبنان يُدار كملف مستقل، بل كجزء من بيئة أمنية إقليمية يُفوَّض الكيان بإدارتها. وضمن هذا السياق، لا يُفهم التطبيع كهدف بحد ذاته، بل كأداة لإعادة هندسة التوازنات الإقليمية، وتكريس دور الكيان المؤقت كوكيل – شريك، أمني إقليمي يخدم المصالح الأميركية، مع تقليص كلفة الانخراط الأميركي المباشر وضمان النفوذ طويل الأمد.
السياسات
_العصا والجزرة: الدمج بين الضغط (العصا) من خلال التهديد بالعقوبات وربط الدعم والمساعدات بشروط سياسية، والحوافز (الجزرة) عبر ادّعاء تعزيز قدرات الجيش اللبناني وإمكانية دعم اقتصادي وسياسي في حال تنفيذ حصرية السلاح.
_السيطرة على الأجندة الأمنية: تحويل لبنان إلى ساحة تُدار من خلال مؤسسات رسمية خاضعة لشروط أميركية، مع تقليص نفوذ القوى المناوئة للكيان المؤقت.
_ إعادة إنتاج الدولة اللبنانية: إعادة هيكلة السلطة بحيث تكون مؤسسات الدولة الرسمية مسؤولة عن الأمن، في محاولة لإضعاف أي قوة موازية، خاصة حزب الله، وإعادة تعديل الميثاق الوطني الداخلي لصالح سياسات تتوافق مع المصالح والأهداف الاستراتيجية الأميركية-الإسرائيلية.
_الهندسة السياسية الداخلية: الاعتماد على أحزاب وقيادات لبنانية تتماشى مع السياسات الأميركية، بهدف تفتيت التحالفات الوطنية وتهميش القوى المقاومة.
وفي هذا السياق ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت التصريحات التالية لمسؤولي كيان الاحتلال الإسرائيلي:
_”نحن نسير نحو التصعيد وسنقرّر موعده بما يتناسب مع مصالحنا الأمنية”.
_”تحاول واشنطن إنقاذ وقف إطلاق النار من الانهيار الكامل… لكنها لا تكبّل إسرائيل في الساحة اللبنانية”.
ثالثًا: المسار والمراحل
تتجلّى السياسة الأمريكية–الإسرائيلية تجاه لبنان بوصفها مسارًا استراتيجيًا تدريجيًا مُمنهجًا، يُنفَّذ عبر مراحل مترابطة تتكامل فيها الأدوات العسكرية، الدبلوماسية المشروطة، الضغط الاقتصادي، والتأثير في البنية السياسية الداخلية: التفويض – الاستنزاف – الضغط التفاوضي – التفكيك الداخلي – فرض الوقائع وإدارة الأزمة طويلة الأمد.
أ)التفويض والتمكين العسكري (رفع كلفة السلاح): بدأ المسار بمنح الكيان المؤقت تفويضًا عمليًا لإدارة البعد الأمني والعسكري في الساحة اللبنانية، مع توفير غطاء سياسي ودبلوماسي لأي تصعيد تحت عناوين الردع ومنع التهديد الإقليمي. ويُترجم ذلك بعمليات عسكرية انتقائية تستهدف البنى العسكرية واللوجستية، وخطوط الإمداد و”شبكات التهريب”، بما يحدّ من القدرة على الترميم والتطوير، ويحوّل السلاح من عنصر ردع إلى عبء استنزافي متصاعد.
ب)الاستنزاف المركّب والضغط متعدد الأدوات: تتوسّع الضغوط لتشمل استنزافًا عسكريًا محدودًا ومضبوطًا، ويترافق مع ضغط اقتصادي ومالي عبر العقوبات، وتعطيل مسارات الدعم الخارجي، بما يُبقي لبنان في حالة إنهاك مستمر ويحدّ من قدرة حزب الله على التعافي، دون الانزلاق إلى حرب شاملة غير مرغوبة.
ج)الضغط الدبلوماسي المشروط وفرض التفاوض غير المتكافئ: في ظل نتائج الاستنزاف، يُدفع لبنان نحو تفاوض داخلي وخارجي غير متكافئ، حيث يُربط أي دعم مالي أو انفراج اقتصادي بشروط أمنية وسيادية واضحة، تتعلق بضبط الحدود، انتشار السلاح، وتوسيع دور مؤسسات الدولة وفق مقاربة تُضعف المقاومة، وتعيد رسم معادلة السلطة الداخلية.
د)التفكيك الداخلي وإعادة تعريف الصراع: بالتوازي مع الاستنزاف الخارجي، يُعاد توجيه الصراع نحو الداخل عبر تحويل سلاح المقاومة من معادلة ردع إقليمية إلى إشكالية سياسية–اجتماعية داخلية، من خلال تغذية الانقسامات السياسية والطائفية، وبناء سرديات تُحمّله مسؤولية الأزمات الاقتصادية والمؤسساتية و”الخراب”، بما يسمح بتدويل الملف وإبقائه موضع ضغط سياسي، إعلامي وقانوني متواصل.
ه)فرض الوقائع وإدارة الأزمة طويلة الأمد: إمّا قبول لبنان بتسوية قسرية تُفرض في ظل اختلال عميق في ميزان القوة، أو إبقاؤه في حالة فوضى تُعطّل أي تعافٍ سيادي، بما ينسجم مع النظرة الأمريكية في “إدارة الأزمات لا حلّها” كآلية ضبط سياسي مستدام:
1)الإنذار بعد وقف إطلاق النار: اختبار ردود فعل الدولة وحزب الله تجاه الترتيبات الجديدة.
2) الاحتواء الأمني–الاستخباراتي: تنفيذ اغتيالات محدودة، ضربات دقيقة، وتوسيع نطاق المراقبة لتطوّر البنية العسكرية.
3)إعادة تشكيل بنية الدولة وتقويض البيئة الحاضنة للمقاومة: التأثير في مؤسسات الحكم، الجيش والقضاء وربط التمويل الدولي بإصلاحات سياسية وأمنية محدّدة. في المقابل، تقليص الدعم الشعبي، المالي والاجتماعي للمقاومة عبر العقوبات الاقتصادية، الاستهداف المالي، والحملات الإعلامية والسياسية التي تشكّك بشرعية دور المقاومة.
4)فرض التسوية النهائية: صياغة معادلة تقوم على نزع السلاح مقابل إعادة الإعمار، إدماج لبنان في منظومات التعاون الدولي، والانفتاح التدريجي نحو تسويات إقليمية.
5)احتمالية التصعيد العسكري: إذا فشلت الضغوط السياسية في تحقيق أهدافها، يمكن أن تتحوّل الأمور إلى تهديد أو تنفيذ عملية عسكرية إسرائيلية تستهدف إزالة القدرة العسكرية للمقاومة.
رابعًا: الأهداف
تهدف السياسة الأمريكية–الإسرائيلية تجاه لبنان إلى إعادة تشكيل موقعه الأمني والسياسي بما يمنع تحوّله إلى مصدر تهديد مستقبلي، ويضمن ضبط البيئة الاستراتيجية المحيطة بالكيان. ويتمحور هذا التوجه حول تقليص القدرات العسكرية لحزب الله وإعادة تعريف دوره، بما يفقده وظيفته الدفاعية والاستراتيجية ويُخضعه لسقف ردعي مُتحكَّم به، يمنع تشكّل جبهة شمالية فاعلة.
في هذا السياق، تسعى المقاربة المعتمدة إلى إحداث تحوّل بنيوي في البيئة السياسية والاجتماعية الداخلية، ولا سيما داخل الحاضنة الشيعية، عبر إضعاف شبكات الدعم والتمثيل المرتبطة بالحزب وإعادة توجيه خياراتها، تمهيدًا لإعادة تعريف علاقة الدولة بملف السلاح وفق صيغة تُحمِّل المؤسسات الرسمية مسؤولية ضبطه ونزعه تدريجيًا. ويتكامل ذلك مع هدف أوسع يتمثل في فكّ الارتباط البنيوي بين لبنان و”محور إيران”، من خلال تفكيك مصادر القوة المالية والعسكرية والتنظيمية المتصلة بطهران.
وبالتوازي، تعمل الولايات المتحدة والكيان المؤقت على فرض معادلة سياسية–اقتصادية مشروطة، تجعل الدعم الدولي والاستقرار المالي وإعادة الإعمار رهينة مسار أمني وسياسي منسجم مع تصوراتهما، ويقود تدريجيًا إلى ترتيبات أمنية طويلة الأمد. ويُدرج ضمن هذا الإطار إعادة بناء الجيش اللبناني وتسليحه وتوجيه دوره ليُقدَّم بوصفه البديل الحصري عن المقاومة، مع تكريس الولايات المتحدة كضامن أمني ووسيط سياسي مرجعي.
كما تستهدف هذه السياسة، إدماج لبنان في منظومة أمن إقليمي تتدرّج نحو أشكال من التطبيع الاقتصادي والسياسي، بما يعيد رسم ميزان القوى في الشمال لمصلحة الكيان، ويحول دون استعادة حزب الله لقدرة ردع مستقلة مستقبلًا. وتقوم الاستراتيجية عمليًا على تضييق هامش الخيارات اللبنانية بين مسار انهياري شامل ومسار اندماج قسري في خارطة طريق مفروضة، تنتهي إلى تفكيك البنى العسكرية للحزب وإعادة تموضع لبنان الجيوسياسي ضمن نظام إقليمي جديد. وتتقاطع هذه الأهداف مع مصالح أمريكية أوسع، تشمل تعزيز النفوذ الإقليمي، واحتواء خصوم استراتيجيين مثل إيران، روسيا والصين، وتأمين مصالح اقتصادية طويلة الأمد، وإعادة هيكلة الإقليم تحت قيادة أمريكية وفق مقاربة “الأمن أولًا”. ويُستفاد في هذا الإطار من التحولات التي أعقبت الحرب الأخيرة، حيث تنظر واشنطن إلى الشرق الأوسط بوصفه مجالًا متزايد الفرص للشراكات والاستثمار بدل كونه مصدرًا دائمًا للأزمات.
وتشمل الأدوات المرافقة لهذا المسار زرع ثقافة مؤسسية ومنظومات معرفية منسجمة مع القيم الغربية عبر اتفاقيات تعليمية وتقنية، تعزيز النفوذ داخل وظائف الدولة الأساسية، وبسط سيطرة غير مباشرة على البنى الرقمية والاتصالات، وربط المساعدات بإصلاحات وهيكليات تضمن بقاء لبنان شريكًا محدود التأثير وخاضعًا لشروط الدعم الخارجي. كما يُدرج لبنان ضمن استراتيجية أوسع لمواجهة النفوذ الإيراني في الإقليم، مع السعي إلى سلبه القدرة المستقلة على الدفاع عبر “نزع السلاح خارج إطار الدولة”.
وبالتالي، تنطلق السياسة الأمريكية–الإسرائيلية تجاه لبنان من هدف استراتيجي جامع يتمثّل في إعادة تشكيل البنية الأمنية والسياسية للدولة اللبنانية بما يضمن تحييدها عن معادلات الصراع الإقليمي، وكسر معادلة الردع التي تمثّلها المقاومة، ودمج لبنان ضمن منظومة أمن إقليمي تقودها “إسرائيل” وتضبطها الولايات المتحدة. ويُترجم هذا الهدف الاستراتيجي إلى غاية مركزية تتمحور حول إخضاع لبنان سياسيًا وأمنيًا عبر تفكيك البنى العسكرية المستقلّة، وإعادة تعريف السيادة اللبنانية بوصفها وظيفة منضبطة ضمن ترتيبات أمنية إقليمية مفروضة، لا تعبيرًا عن قدرة ذاتية مستقلة. ويفضي ذلك إلى تفكيك الكيان السياسي وإرباك النظام المؤسسي والعبث بالتوازنات المجتمعية، بما يفضي إلى إنتاج ترتيبات محلية ضعيفة ومجزّأة تعيق قيام سلطة مركزية فاعلة. ويُدار لبنان في هذا السياق وفق نموذج السيطرة غير المباشرة، تمهيدًا لإعادة تعريف السيادة والتحكم بالموارد الاستراتيجية، ولا سيما المياه، الثروات الطبيعية والمرافئ.
خامسًا: الإجراءات التنفيذية وآليات الضغط
يقوم البرنامج على إدارة متزامنة للمسار الميداني والتفاوضي، ويجمع بين أدوات عسكرية، أمنية ودبلوماسية، اقتصادية ومؤسسية، تُطبَّق على الأرض وتُقاس نتائجها بشكل مباشر.
الإجراءات
1)إدارة المسار العسكري – الدبلوماسي ونزع السلاح: ترتكز على خطة تنفيذية لنزع سلاح حزب الله، تُدفع عبر مقايضة سياسية – أمنية تربط وقف الضربات العسكرية وانسحاب قوات الاحتلال من بعض مواقع الجنوب بإنجاز تفكيك القدرات العسكرية للحزب ضمن أطر زمنية محدّدة. ويتكامل ذلك مع سياسة ضغط ممنهجة على مؤسسات الدولة، تشمل توظيف العلاقات العسكرية والدعم الدولي كأدوات ابتزاز سياسي، بما يعكس إخضاع القرار السيادي لمنطق الشروط.
2)فرض وقائع ميدانية وتصعيد محسوب: يعتمد الكيان المؤقت سياسة الضربات المنتظمة والمنهجية والتي تُستخدم لإبقاء الجنوب في حالة تصعيد ميداني دائم، يواكب المسار التفاوضي ويؤسّس لمعادلة “التسوية تحت الضغط”. ويجري هذا التصعيد ضمن سقف مدروس يهدف إلى تعديل ميزان الردع وإضعاف البنية القيادية والميدانية للحزب، من دون الانزلاق إلى حرب شاملة في المرحلة الراهنة.
3)إعادة هندسة الترتيبات الأمنية جنوب الليطاني: تدفع الولايات المتحدة باتجاه نقل المسؤوليات الأمنية جنوب الليطاني إلى الجيش اللبناني، مدعومة بآليات أممية مثل تمديد محدود لولاية قوات اليونيفيل، تمهيدًا لإعادة توزيع الأدوار الأمنية وتقليص الحضور الميداني لحزب الله. ويُستكمل ذلك بالضغط لإنشاء مناطق حدودية ذات طابع اقتصادي وأمني منضبط، خالية من تأثير الحزب.
4)تفكيك البنية الاجتماعية والوظيفية للحزب: لا تقتصر الإجراءات على البعد العسكري، بل تمتد إلى استهداف منظومة النفوذ الاجتماعي للحزب، عبر الضغط على قطاع الخدمات والرعاية والإعلام والتعليم، بهدف فصل بيئته الحاضنة عنه وتجفيف مصادر قوّته المجتمعية. ويُوظَّف ملف إعادة الإعمار في هذا السياق كأداة صراع سياسي، عبر حصر إدارته بالدولة وربطه بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة لتقليص نفوذ الحزب داخل مجتمعه.
5)فرض معادلة سياسية داخلية مشروطة: تُدفع القيادة اللبنانية نحو خيارات ضيّقة، تتراوح بين مواجهة الحزب داخليًا أو القبول بمسار اتفاقات أمنية وتفاهمات إقليمية، فيما تُستخدم الوعود بالدعم والاستقرار كأوراق تفاوض دون تقديم ضمانات متبادلة.
6)إعادة هندسة الإطار التفاوضي وإدارة الصراع: يجري العمل على إعادة تشكيل آليات التفاوض اللبنانية – الإسرائيلية، سواء عبر تعديل تركيبة الوفود أو الدفع نحو إنشاء آليات رقابة ومتابعة يمكن توظيفها كبوابة لمسار سياسي أوسع. وتُستخدم الاتفاقات في هذا الإطار كأدوات لإدارة الصراع وضبطه، لا كمسارات تسوية نهائية، مع السعي للارتقاء التدريجي بالمفاوضات إلى مستوى سياسي يفتح الباب أمام تطبيع وظيفي مقنّع.
7)التهديد بالتوسيع العسكري وتكريس دور القوة: تستخدم واشنطن وتل أبيب التهديد بتوسيع العمليات العسكرية كوسيلة ضغط دائمة في حال تعثّر المسار السياسي، مع منح “إسرائيل” هامش حركة عملياتي واسع. ويُقدَّم المسار الدبلوماسي للبنان باعتباره الخيار الوحيد المتاح بعد الكلفة البشرية والاقتصادية للحرب.
8)الاستنزاف طويل الأمد كخيار عملي: تتبنّى الولايات المتحدة والكيان المؤقت مقاربة “جزّ العشب” القائمة على الاستنزاف التدريجي لقدرات الحزب بدل فرض تحوّل جذري وسريع، انطلاقًا من تقدير مفاده محدودية قدرة الجيش اللبناني على فرض سيادة كاملة، حاضرًا ومستقبلًا.
9)التغلغل المؤسسي، الاقتصادي والتقني: يترافق الضغط الأمني مع توسيع النفوذ داخل مؤسسات الدولة والقطاعات الحيوية، من خلال دعم مشاريع المكننة والأرشفة في القضاء، وتوسيع حضور الشركات الأميركية في قطاعات استراتيجية مثل الاتصالات والبنى الرقمية، وربط التدريب وبناء القدرات التقنية بشبكات دعم غربية. كما تُستغل الأزمة الاقتصادية عبر ربط المعونات بإصلاحات وشروط سياسية واقتصادية كبرى تُعيد توجيه خيارات لبنان.
10)تكريس الكيان كوكيل أمني إقليمي: إسناد الدور الأمني الإقليمي للكيان المؤقت بوصفه الوكيل الرئيسي لإدارة التوازنات والتهديدات، ضمن منظومة تقودها الولايات المتحدة، وتُدار فيها الساحات المحيطة، ومنها لبنان، وفق منطق الضبط والسيطرة لا التسوية الشاملة تمهيدًا لتنفيذ مشاريع التوسّع، السيطرة والتحكّم بأراضي المنطقة ومقدّراتها.
آليات الضغط
تشمل آليات الضغط منظومة متكاملة من وسائل القوة والتأثير تُستخدم بصورة منهجية لفرض الإجراءات المقرّرة وتوليد بيئة قسرية تُقيِّد هامش القرار اللبناني وتدفع الدولة نحو الانخراط في المسار المطلوب.
في هذا الإطار، يشكّل الضغط العسكري قاعدة الارتكاز الأساسية، عبر الإبقاء على مستوى تهديد ميداني دائم يربط أي تقدّم سياسي بميزان القوة، ويُبقي خيار التصعيد حاضرًا بوصفه أداة ضبط سلوكي. ويتقاطع ذلك مع ضغط سياسي يستهدف إضعاف موقع الدولة التفاوضي من خلال التشكيك بقدرتها على تنفيذ التزاماتها، وفرض جداول زمنية وشروط تنفيذية تضيّق خياراتها الداخلية.
وعلى المستوى الدبلوماسي، يُوظَّف الوسطاء وآليات الأمم المتحدة لإعادة تدويل الملف اللبناني، لا بهدف خلق توازنات ضاغطة مضادة، بل لتكريس مسار ضغط متعدّد الأطراف يمنح المقاربة الأميركية – الإسرائيلية غطاءً دوليًا. ويُستكمل هذا المسار بالتّحكم في سردية الشرعية الدولية، عبر إعادة تأويل القرارات ذات الصلة بما يوفّر إطارًا “قانونيًا – أخلاقيًا” يشرعن الضغوط والإجراءات المفروضة.
اقتصاديًا، تُستخدم المساعدات وإعادة الإعمار كأدوات ضغط مشروط، تُربط بتنفيذ التزامات سياسية وأمنية محدّدة، بما يحوّل الأزمة الاقتصادية إلى وسيلة ابتزاز مستدامة. وفي المقابل، تُطرح حوافز تقوم على مقايضات شاملة، تشمل وعودًا بالدعم والاستقرار مقابل تفكيك القدرات العسكرية، في محاولة لإعادة صياغة خيارات الدولة ضمن منطق الكلفة والعائد.
ويترافق ذلك مع حرب نفسية وإعلامية تستهدف الرأي العام وبيئة المقاومة عبر سرديات مشروطة تسعى إلى إعادة تعريف أسباب الأزمة ومخارجها، مدعومة بأدوات استخباراتية تقوم على المراقبة والاستهداف لمنع إعادة بناء القدرات العسكرية والتنظيمية.
وفي الخلفية، يُحافَظ على التهديد بحرب شاملة كخيار ردعي أقصى يُستخدم عند تجاوز خطوط حمراء، بما يفرض سقفًا دائمًا على أي انحراف عن المسار المطلوب. ويُستكمل هذا الإطار بالعمل على تفكيك الانسجام الداخلي اللبناني عبر تعميق الاحتقان وتوسيع هوامش التوتر السياسي والاجتماعي، الأمر الذي يرفع كلفة أي تسوية داخلية بديلة ويُقيِّد إمكانات المناورة السياسية للدولة.
هذه الأدوات تُدار بشكل تكاملي واستراتيجي لتوليد بيئة قسرية تحصر الخيارات اللبنانية، وتربط التقدم السياسي بالاستجابة لشروط محددة، ما يجعل أي تحرك مستقلّ صعبًا، ويعيد إنتاج هيمنة خارجية على القرار اللبناني بطريقة تدريجية ومتعدّدة الأبعاد.
سادسًا: أبرز التصريحات الأمريكية الإسرائيلية
_تصريح السفير الأميركي في لبنان، ميشيل عيسى، الذي قال في مقابلة مع ليزا روزوفسكي (“هآرتس”، 29/11): إن “إسرائيل ليست في حاجة إلى إذن من الولايات المتحدة لتدافع عن نفسها.”
_توم باراك لقيادة لبنان: “الولايات المتحدة لن تتدخل بعد الآن في وضع تسيطر فيه منظمة “إرهابية” أجنبية (حزب الله)، ودولة فاشلة (لبنان) تملي الوتيرة وتطلب مزيدًا من الموارد والمال والمساعدات”… “إذا أراد اللبنانيون دخول مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، فسوف نساعدكم. سنضغط على إسرائيل لتكون عقلانية.”
_بيان صادر عن ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية: إن الاجتماع الذي عُقد في الناقورة أمس (الأربعاء) مع ممثلين لبنانيين وأميركيين جرى في أجواء إيجابية، وتم فيه التوصل إلى اتفاق على بلورة أفكار لتعزيز تعاون اقتصادي محتمل بين إسرائيل ولبنان. وأشار البيان إلى أن نائب رئيس شعبة السياسات الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي أوري رزنيك عقد اجتماعاً مع مستشارة الرئيس الأميركي لشؤون ملف لبنان مورغان أورتاغوس، وممثلين مدنيين لبنانيين ذوي صلة. وأوضح أن الاجتماع عُقد بناءً على توجيهات من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وكجزء من الحوار الأمني المتواصل بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولبنان، وكانت الأجواء فيه إيجابية، وتم في ختامه الاتفاق على بلورة أفكار لتعزيز تعاون اقتصادي محتمل بين إسرائيل ولبنان. وجاء في البيان أيضاً أن إسرائيل أوضحت أن نزع سلاح حزب الله هو مطلب ملزم، ولا يرتبط بأي شكل بدفع التعاون في الموضوع الاقتصادي قدماً. وأشيرَ في ختام البيان إلى أن الطرفين اتفقا على استمرار الحوار.
_السفارة الأميركية في لبنان: أعلنت أن الاجتماع الذي عُقد في الناقورة كان للّجنة التقنية العسكرية للبنان (لجنة “ميكانيزم”)، وقد ضم مشاركين مدنيين بهدف تعزيز السلام ووقف الأعمال العدائية.
_رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو: أعلن أن إسرائيل ستشارك في اجتماع مع جهات حكومية واقتصادية من لبنان. واعتبر أن هذه المشاركة تُعد “محاولة أولية لإرساء أسس علاقة وتعاون اقتصادي بين إسرائيل ولبنان”.
_ساعر إثر لقائه أورتاغوس في سياق بيان نشره على منصة “إكس”: “أجرينا نقاشًا جيدًا حول الوضع في لبنان. وقد قلت لها إن من ينتهك السيادة اللبنانية هو حزب الله، وإن نزع سلاح حزب الله أمر بالغ الأهمية لمستقبل لبنان وأمن إسرائيل. إن الولايات المتحدة هي أعظم حلفائنا، وسنواصل تعاوننا الوثيق.”
سابعًا: الموقف الرسمي اللبناني
1)الحكومة اللبنانية سهلّت اعتماد خطة تدعم نزع سلاح حزب الله ونشر الجيش جنوبًا، بغطاء دولي-أميركي:
2)رئيس الجمهورية اللبناني جوزيف عون: “إن الجلسة الأولى للمفاوضات مع إسرائيل، الأربعاء، في منطقة الناقورة جنوبي البلاد مهدت الطريق لجلسات مقبلة، مشددا على ضرورة أن تسود لغة التفاوض بدل الحرب”، وفق تعبيره. وأكّد عون في الوقت نفسه، “أنه لا تنازل عن سيادة لبنان عند الوصول إلى اتفاق مع إسرائيل، مبينًا أن المساعي الحالية تهدف إلى إبعاد البلاد عن “شبح حرب ثانية”.
3)رئيس الحكومة نواف سلام: “المفاوضات غير المباشرة (مع إسرائيل) تُجرى تحت مظلة وطنية واضحة. وهذه الخطوة محصنة سياسيًا، وتحظى بإجماع داخلي”.
4)حزب الله: متمسّك بموقفه الرافض لنزع سلاحه، وهذا ما أكّده الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في خطابه الأخير، حيث أشار إلى أن “مشكلة الدولة اللبنانية ليست حصر السلاح من أجل النهوض، وحصر السلاح بالصيغة المطروحة هو مطلب أميركي إسرائيلي، وبهذا المنطق هو إعدام لقوة لبنان”.
ثامنًا: المخاطر
1)تفكيك القدرات الدفاعية والردعية للبنان: إن حصر سلاح المقاومة ضمن إملاءات خارجية من شأنه إحداث شرخ مجتمعي عميق، بما يسهّل تفكيك الكيان والنظام والعبث بالتوازنات المجتمعية، ويؤدي في الوقت نفسه إلى إضعاف القدرة الدفاعية والردعية للبنان، التي شكّلت أحد عناصر حمايته الأساسية منذ تحرير عام 2000.
2)تقويض السيادة الوطنية: ربط الضغوط بإعادة توزيع الموارد الاستراتيجية، ولا سيما ثروات الغاز والنفط، وملفات إعادة الإعمار والدعم الاقتصادي وفق شروط سياسية مفروضة، من شأنه تقويض سيادة القرار اللبناني لمصلحة أجندات خارجية، وفتح المجال أمام التحكم بالمياه والثروات والمرافئ.
3)زيادة التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية: على المدى الطويل، قد يُفتح باب تدخل خارجي كبير في الشأن اللبناني، ليس أمنيًا فقط، بل اقتصاديًا وسياسيًا، ما يعني أن “الاستقلال” اللبناني قد يُعاد تعريفه بشكل غير تقليدي.
4)حالة ضغط وعدم استقرار دائمين: هذا النوع من السياسة يفضي إلى حالة ضغط مستمرة وعدم استقرار دائم، لا يقتصر على احتمال اندلاع حرب، بل يشمل تهديدًا مستمرًا يُستغل لتقييد الخيارات السياسية والأمنية للدولة اللبنانية.
5)إرهاق المجتمع اللبناني وتفكّك مؤسسات الدولة: يسهم هذا المسار في إرهاق المجتمع اللبناني من خلال إحداث حالة دائمة من الخوف، تعزيز ظاهرة النزوح، وإضعاف المؤسسات الوطنية، وتصعيد الضغوط الداخلية، ما يقلّص بشكل كبير قدرة لبنان على الصمود أو مقاومة الضغوط الخارجية.
6)خلق بيئة اجتماعية وسياسية هشة: تفكيك التوازنات المجتمعية وإنتاج تشكيلات سياسية واجتماعية ضعيفة يجعل الدولة أقل قدرة على إدارة الأزمات، ويزيد الانقسام الداخلي ويجعل لبنان أكثر اعتمادًا على الدعم الخارجي.
7)منح الولايات المتحدة والكيان المؤقت فرصة دفع لبنان نحو وضعية “المحميّة”، تمهيدًا لفرض سيطرة جغرافية أو أمر واقع جغرافي.
يحمل البرنامج الأمريكي الإسرائيلي في جوهره مخاطر عالية على استقرار الدولة اللبنانية، إذ يُعمّق الهشاشة المؤسسية، ويُكرّس الانقسام المجتمعي، ويُبقي لبنان في حالة صراع مُوجّه، لا تسوية مستدامة، بما يخدم ضبط “الساحة الشمالية” وإعادة توزيع النفوذ والموارد ضمن منطق السيطرة غير المباشرة.
تاسعًا: التحديات
1)حزب الله يمتلك قدرة تنظيمية ولوجستية عالية، ويستند إلى بيئة حاضنة قوية، ما يقلّص فعالية أي محاولات سريعة لنزع السلاح أو إعادة هندسة ميزان القوى.
2)أي ضغوط مباشرة قد تتحوّل إلى أزمات سياسية داخلية للسلطات اللبنانية.
3)الانقسامات داخل الجيش اللبناني والحكومة تحدّ من إمكانية فرض سياسات موحّدة وفعّالة.
4)الالتزام الجزئي أو الشكلي في تنفيذ الإجراءات يضعف أثر الاستراتيجية ويطيل زمن تحقيق أهدافها.
5)البيئة الداخلية المعقّدة تجعل إدارة الضغوط متعدّدة الأبعاد تحديًا كبيرًا، إذ يمكن لأي خطوة غير محسوبة أن تؤدي إلى انفجار داخلي أو تفاقم الانقسامات.
6)القيود الإقليمية والضغوط الدولية قد تقيّد قدرة الولايات المتحدة والكيان المؤقت على التصعيد الشامل، وبالتالي، تحقيق أهدافها النهائية رهين بالتفاعل مع معطيات الداخل اللبناني وظروف المنطقة.
7)الحاجة إلى الحفاظ على شرعية دولية تحدّ من مرونة أي سياسات قسرية قوية.
8)المسار يصبح متدرّجًا ويستلزم إدارة مستمرة للتفاعلات ومراعاة المخاطر المحتملة للانزلاق إلى أزمات غير متوقعة.
عاشرًا: السيناريوهات المتوقعة
لا تتّجه الساحة اللبنانية نحو مسار أحادي، بل تُدار ضمن طيف من السيناريوهات المتدرّجة، تحكمها طبيعة الاستجابة المحلية للضغوط الخارجية، وحدود التوازن الإقليمي، وقدرة الفاعلين الدوليين على ضبط التصعيد. ويمكن تصنيف هذه السيناريوهات على النحو الآتي:
_الاحتواء المتدرّج: يقوم هذا السيناريو على إدارة تصعيد تدريجي، ولكن مضبوط، حيث يستمر الدعم الدولي للمؤسسات الرسمية، ولا سيما الجيش اللبناني، بالتوازي مع تفاهمات إقليمية ودولية تمنع الانزلاق إلى حرب شاملة. ويؤدي هذا المسار إلى تعزيز حضور الدولة جنوبًا وتقليص النفوذ الميداني لحزب الله تدريجيًا، من دون استبعاده من المعادلة السياسية. وتُدار المواجهة ضمن آليات رقابة وضبط تحول دون إعادة التسلّح الواسع، وتُبقي الاحتكاكات ضمن مستويات منخفضة وقابلة للاحتواء.
_التصعيد المُدار: يفترض هذا السيناريو فشل المسارات السياسية الجزئية، ما يفتح المجال أمام تصعيد محدود ومتكرّر، عبر جولات قتالية قصيرة وعمليات نوعية وضربات مركّزة، تُستخدم كأداة ضغط لفرض وقائع جديدة على الأرض. ويؤدي هذا المسار إلى تعطيل التقدّم السياسي، وزيادة الكلفة على المدنيين، مع بقاء الصراع دون مستوى الحرب الشاملة، في ظل محاولات دبلوماسية متواصلة لمنع الانفجار الكبير.
_الانفجار الشامل: ينشأ هذا السيناريو عند فشل كامل لآليات الاحتواء، سواء بسبب حادث نوعي كبير أو انهيار داخلي في قدرة الدولة على الضبط. ويؤدي ذلك إلى مواجهة واسعة مع الكيان أو إلى تفكك أمني داخلي، أو إلى تداخل المسارين معًا، بما يستدعي تدخلات إقليمية ودولية مباشرة ويُدخل لبنان في مرحلة عدم استقرار عميق وطويل الأمد.
الخلاصة
تمثّل الاستراتيجية الأميركية–الإسرائيلية تجاه لبنان مشروع إخضاع شامل، يهدف إلى إعادة إنتاج النظام الأمني والسياسي وفق أولويات خارجية واضحة. ولا يقتصر الهدف على نزع سلاح حزب الله، بل يشمل إعادة هندسة ميزان القوى الداخلي، تقييد استقلال القرار اللبناني، وتحويل لبنان إلى كيان وظيفي يخضع لإملاءات إسرائيلية وأميركية، مع إبقاء دوره السياسي ضمن حدود ضيّقة. يُدار هذا المسار تدريجيًا، عبر مراحل متعدّدة تجمع بين الاستنزاف العسكري المحدود، الضغوط الاقتصادية الممنهجة، الابتزاز السياسي المشروط، والتفكيك الاجتماعي والثقافي لبيئة الدعم الحاضنة للمقاومة.
يُستثمر المسار في تعزيز دور الجيش والمؤسسات الرسمية بوصفها البديل الشرعي الوحيد للقوة، وربط المساعدات الدولية والدعم الاقتصادي بالتزام الدولة بتنفيذ ترتيبات محدّدة، ما يفرض واقعًا قسريًا على الدولة والمجتمع. كما تُوظّف أدوات دبلوماسية، قانونية وإعلامية لتكريس “سردية شرعية” لإعادة ضبط التوازنات الداخلية، وتوجيه لبنان نحو مسار تطبيع وظيفي يخدم الأمن الإقليمي الإسرائيلي ويقلّص الحاجة إلى تدخل أميركي مباشر. ويعكس ذلك تحوّلًا جوهريًا في إعادة تعريف السيادة اللبنانية، حيث تصبح وظيفة الدولة مرتبطة بقدرتها على التكيف مع منظومة الضبط الخارجي، وليس بالاستقلالية في صناعة القرار أو ممارسة القوة.
فالاستراتيجية الأميركية–الإسرائيلية ليست سياسة تطبيع تقليدية ولا مسار تسوية، بل مشروع إخضاع بنيوي واستراتيجي يتجاوز الضغوط العسكرية والدبلوماسية ليشمل إعادة تشكيل البنى السياسية والاجتماعية والأمنية في لبنان، بما يتناغم مع رؤية “الشرق الأوسط الجديد” فيما يخصّ النفوذ الأميركي – الإسرائيلي. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تفكيك الكيان والنظام اللبناني، وخلق خلخلة في التوازنات المجتمعية الداخلية، من خلال إنتاج تشكيلات سياسية واجتماعية قابلة للانقياد، تُؤمّن لكل من واشنطن وتل أبيب فرصة تحويل لبنان إلى كيان ذي سيادة منقوصة، أقرب إلى وضعية “المحمية”، بما يتيح التحكم بعناصر سيادته الأساسية، ولا سيما المياه والثروات الطبيعية والمرافئ الحيوية.
وعليه، لا يواجه لبنان اليوم مجرّد تحدٍّ عابر على الصعيد الأمني أو السياسي، بل معركة على موقعه وهويته ودوره الإقليمي، في ظل تحوّل إدارة القوة والنفوذ الدولي، ما يضعه تحت تأثيرات خارجية واسعة النطاق تسعى لإعادة تشكيله بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
