في الأنباء، أو بالأحرى، في التسريبات، أن واشنطن مؤخرا، أخذت ترسل إشارات محمّلة باستعدادها فتح قناة حوار وتفاوض مباشر مع حزب الله، تبحث في عشرات القضايا العالقة، التي لا حل لها ولا علاج، من دون أن يكون الحزب طرفا فيها، بدءا باتفاق الهدنة (27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) المترنح، وانتهاء بما يجري الحديث عنه من اتفاقات تحاكي ما يجري العمل عليه على الجبهة السورية.
“اتفاق الهدنة (49)+” لبنانيا، و”اتفاق فك الاشتباك (74)+” سوريًا، وإقامة مناطق صناعية وتنموية على الحدود الإسرائيلية- اللبنانية.
وتكتسب هذه التسريبات، درجة أعلى من الجدية، بالاستناد إلى قناة تفاوضية أخرى، سبق لواشنطن أن فتحتها مع حركة حماس، والمقصود بها قناة ستيف ويتكوف-خليل الحية، والتي ساهمت بدرجة ما، في تبديد أجواء الحذر والتردد التي اشتعلت في أوساط الحركة، وهي تقرأ البنود العشرين لمبادرة ترامب، والتي ستصبح لاحقا، قرارا لمجلس الأمن الدولي يحمل الرقم 2803.
وهي القناة التي تشير الأنباء، أو بالأحرى، التسريبات، إلى أنها ما زالت قائمة، وما زالت عرضة للتنشيط والتجميد، وفقا لمقتضيات الحال، وطبيعة التطورات المتلاحقة.
وكلتا القناتين، تستندان بدورهما إلى إرث متراكم أرسته واشنطن في علاقاتها مع قوى وفصائل وحركات، لطالما صنفتها “إرهابية” وأدرجتها على قوائمها السوداء. مختلف فصائل العمل الوطني والإسلامي الفلسطينية، مدرجة على هذه القوائم، أو أدرجت في مراحل مختلفة، قبل أن يتم رفع بعضها.
هكذا كان الوضع في أفغانستان وفي سوريا قبل أن تنفتح الولايات المتحدة على تسلم طالبان الحكم وعلى التعاون مع الرئيس الشرع في سوريا، وتلغي قانون “قيصر”.
حركة أنصار الله الحوثية، أدرجت وأخرجت وأُعيدت إلى القوائم ذاتها، من دون أن يمنع ذلك إدارة ترامب، من إبرام “اتفاقية عدم اعتداء” مع صنعاء، قضت بوقف استهداف السفن الأميركية، في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، نظير وقف واشنطن عملياتها الجوية والصاروخية ضد أهداف يمنية. ثمة العديد من القصص الأخرى، الدالة على المدى البعيد الذي بلغته “البراغماتية” الأميركية.
بخلاف إدارة بايدن الضعيفة، تقول التقارير إن الرئيس الأميركي القوي، دونالد ترامب، يفضل التعامل مع “الأقوياء”، ولا يهم إن كانوا على عداوة أيديولوجية أو سياسية مع بلاده، فهو من أشد المعجبين بالرؤساء: الصيني، والروسي، والكوري الشمالي، رغم كل السرديات الأميركية، حول دكتاتورية هذه الأنظمة، وعدائها الأشد للغرب والرأسمالية والديمقراطيات عموما، وهي سرديات ليست منزهة عن الطعن والتصويب بالطبع، بيد أنها ملأت الأرض والفضاء لسنوات وعقود عديدة.
في الحالة اللبنانية، ومهما كانت مآلات السباق المحتدم بين حراك الدبلوماسية وقرع طبول الحرب، سيظل حزب الله حاضرا في المعادلة اللبنانية، بل وحاضرا بقوة. لا سبيل للخلاص عسكريا من الحزب وسلاحه، هكذا قال توم باراك نفسه مؤخرا، وصادف أن الحزب يملك نفوذا كاسحا في طائفته، التي لسعْدها أو شقائها، تنتشر على الحدود اللبنانية مع دولتين، يرى فيهما لبنانيون كثر، تاريخيا والآن، مصدري تهديد: إسرائيل وسوريا، وتحتفظ فيهما واشنطن، بمصالح جمة.
وفي الحالة الفلسطينية، الغزية بخاصة، ثبت أن نتائج 26 شهرا من حرب الإبادة، لم تجهز على حماس، ولم تسقط سلاحها، ولم تخرجها من قطاع غزة، رافعة الرايات البيضاء، وأن أي ترتيب لغزة، لا تكون جزءا منه، أو على الأقل، قابلة به ومتساوقة معه، لن يمر، وفي أسوأ سيناريو، لن يمر بسهولة ومن دون كلفة.
في الحالة اللبنانية، تدرك واشنطن، أن الدولة ضعيفة، وهي وإن تجرأت على اتخاذ قرارات غير مسبوقة منذ نصف قرن، إلا أنها تظل حبرا على ورق، ما لم يتعاون الحزب في ترجمتها، كما يحصل اليوم في جنوب الليطاني، حيث يواصل الجيش انتشاره، ويعمل على مصادرة سلاح الحزب وتدمير بناه التحتية، ولكن من دون مقاومة تذكر من طرف الأخير.
ربما لا يلعب الحزب دور “المرشد” الذي يقود الجيش إلى مخابئ سلاحه، ولكنه في المقابل، لا يمانع ولا يقاوم، حين يصل الجيش إلى هذه المخابئ، ويعمل على إفراغها وأحيانا تدميرها.
كما أن واشنطن، وهي تستعجل قيام الجيش بترجمة قرار الحكومة الخاص بـ”حصرية السلاح”، تدرك في عقليها، الباطن والظاهر، أنه محظور على هذا الجيش أن يقع في فخ المغامرة، فالتركيبة الطائفية والمذهبية للدولة والجيش والمؤسسات، تجعلها أكثر هشاشة، وأكثر عرضة للانقسام، والعودة إلى “مكوناتها الأولية” إن وقعت الواقعة، والتاريخ اللبناني الحديث، قدم مثالا على ما يمكن أن تؤول إليه حالة الجيش، عندما انقسم إلى ثلاثة جيوش في زمن احتدام الحرب الأهلية.
في الحالة الفلسطينية، تريد واشنطن للسلطة أن تضطلع بـ “دور ما” في غزة ما بعد الحرب وصمت المدافع، لكنه دور تجريبي “Pilot”، كما تفتق عنه ذهن توني بلير، ومحدود في حجمه ونطاقه الجغرافي.
أما المسألة من وجهة نظر إدارة ترامب، فرهن بإتمام السلطة مشوار “إصلاح” داخلي عميق، يتخطى بنى السلطة ومؤسساتها، إلى البنية التعليمية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الفلسطيني، وإلى السردية والرواية والذاكرة الجمعية للفلسطينيين، تلكم مسيرة طويلة، لن تعطي إسرائيل في نهايتها شهادة حسن سلوك لأحد، فكلما أقدم الفلسطينيون على تقديم تنازل، تفتحت شهية اليمين الفاشي على طلب المزيد.
على أن ضعف السلطة، هو الأمر الحاضر بقوة في خلفية التفكير الأميركي. وضعف الثقة (حتى لا نقول انعدامها) لدى صناع القرار في البيت الأبيض، بقدرتها على استعادة زمام المبادرة، ما زال سيد الموقف في العاصمة الأميركية، بينما حماس، أظهرت صبيحة اليوم التالي لوقف النار، قدرتها على معاودة الإمساك بتلابيب الحياة العامة والإدارة والأمن والانتظام الداخلي في مناطق سيطرتها من القطاع، تلكم قضية دفعت ترامب للقول إنه يعرف ما يجري في غزة، وإنه موافق عليه.
في الحالة الفلسطينية، تُبدي حماس قدرا أعلى من المرونة في التعامل مع مسار التفاوض المباشر مع واشنطن، هي تريده وتستعجله، وتتطلع لرفع مستواه ووتيرته، ولديها شبكة عربية- إقليمية، تدفع في هذا الاتجاه، أقله من قبل “ثلاثي الوساطة”، الذي سبق لطرفين منه، أن يسرا مهمة طالبان في أفغانستان، والهيئة في سوريا، ودائما بالتنسيق مع واشنطن.
إن فتحت واشنطن قناة تفاوض مع حزب الله، وفعلت قناتها مع حماس، فمن شأن ذلك أن يستحدث انقلابات في المشهدين المحلي والإقليمي، وسيُعاد توزين أدوار القوى الأخرى، ومصلحة للداخل اللبناني والفلسطيني
في الحالة اللبنانية، لا يبدي حزب الله، المرونة ذاتها، فهو ما زال في خطابه المعلن على أقل تقدير، يرفض التفاوض المباشر مع واشنطن، ويردد ما تقوله طهران، عن عدم جدوى وجدية هذا المسار.
والحزب من ناحية أخرى، لا يتوفر على شبكة الأمان العربية- الإسلامية، التي تتوفر عليها حركة حماس، على ضعفها، بدلالة الاستباحة الإسرائيلية المستمرة لاتفاق 10 أكتوبر/تشرين الأول.
ولو كان لي أن أهمس في أذني الشيخ نعيم قاسم، لقلت له امضِ في الطريق الذي سارت فيه حماس، وابحث عن وسطاء وسعاة خير، من خارج الدائرة الإيرانية، ولا بأس أن تبدأ بالطلب من العراق، أن يقوم بهذا الدور، فهو راغب فيه، وسبق له أن قدم خدمات على طريق الوساطة بين طهران وواشنطن، على ألا يظل الأمر محصورا بخط طهران- بغداد، فثمة عواصم عربية راغبة في القيام بهذا الدور ومستعدة له، ولديكم الآن الوسيط المصري النشط، الذي ما إن يغيب أحد وجوهه عن بيروت، حتى يطل عليها، وجه آخر.
إن فعلتها واشنطن، وفتحت قناة مع الحزب، وفعلت القناة مع حماس، فإن من شأن ذلك أن يستحدث انقلابات في المشهدين المحليين والمشهد الإقليمي سواء بسواء، وسيُعاد تعريف وتوزين أدوار القوى الأخرى من جديد، وسنكون أمام “منجاة” من سيناريوهات الصدام الداخلي في لبنان، والانقسام الذي لا شفاء له أو منه، في فلسطين، وستنشأ ديناميات جديدة، من شأنها “زيادة الطلب” على هذه القوى، بدل التبرؤ منها، والانتظار بفارغ الصبر، لوراثتها وهي على قيد الحياة والفاعلية.
لكن هذا التوجه الأميركي “المحتمل”، دونه عقبات كأداء. أهمها الموقف الإسرائيلي الذي لا يتسامح في العادة مع من وجهوا أشد الصفعات لجيشه وكيانه واستخباراته وسرديته وصورته، وهو موقف يجد رجع صدى له، في عواصم عربية عدة، ترى في الفصيلين المذكورين، ومن خلفهما “الإسلام السياسي” بمختلف مدارسه، تهديدا وخطرا زاحفا.
ولن يكون الأمر، إن تم، بلا محاذير، فواشنطن ستعمل على سَوق الحزب والحركة، إلى مربعاتها الخطرة، وتأمل أن يفضي هذا المسار في خواتيمه، إلى تحويل هذه الكيانات، والمناطق التي يتجلى فيها نفوذهما الأكبر، إلى أحزمة أمنية لإسرائيل، وهذا ما سعت- وتسعى- لفعله في أفغانستان وسوريا، بغض النظر عن النجاح من عدمه، وهذا ما قد تعمل على إعادة إنتاجه في الحالتين: اللبنانية، والفلسطينية.
هي مقامرة بلا شك، ولكنها في الحالة الفلسطينية بخاصة، تبدو كممر إجباري أمام الحركة، فواشنطن وحدها، تمتلك “اللجام” الذي قد يكبح جموح نتنياهو، ويحتوي جنون التطرف الديني-القومي لحكومته وائتلافه، وهو الأمر الذي ينطبق بهذا القدر أو ذاك، على لبنان والحزب، وإن بثقل أقل ضغطا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
