في «وقائع سنين الجمر» يصرخ صوت أرضٍ
اختنقت طويلا قبل أن تنفجر غضبا ونارا. في هذا العمل الفريد، لا يقدّم محمد الأخضر حمينة الثورة الجزائرية كحدث تاريخي مؤطر بالتواريخ والبطولات الجاهزة، بل كحالة إنسانية بطيئة التشكل، ووعي جماعي يولد من رحم القهر اليومي. وعلى رغم مرور نصف قرن على إنجازه، لا يزال «وقائع سنين الجمر» يحتلّ صدارة أروع الأفلام وأكثرها تأثيرا لأنه اتخذ شكل ملحمة ذاكرة ومقاومة وثورة.
في إطار تكريم السينمائي الجزائري الراحل محمـد الأخضـر حمينـة، برمجت أيام قرطاج السينمائية عرضا خاصا لمجموعة من أفلامه. وكان الافتتاح بفيلمه الشهير «وقائع سنين الجمر».
من المصير الفردي إلى الوعي الجماعي
بعد نصف قرن من فوزه بالسعفة الذهبية في مهرجان “كان” ليكون الفيلم العربي والإفريقي الوحيد الفائز بهده الجائزة، تمّ عرض فيلم «وقائع سنين الجمر» للمخرج الجزائري محمد الأخضر حمينة ضمن فعاليات “كلاسيكيات كان”، في الدورة الـ 78 من المهرجان احتفالا بمرور خمسين سنة على فوز الفيلم بالسعفة الذهبية. وبعد أشهر قليلة، يزور الفيلم تونس في عرض تكريمي على شاشة أيام قرطاج السينمائية.
يتحدث الفيلم عن الجزائر بين عامي 1939 و1954 مرورا بمحطات زمنية تروي حالة الجفاف الرهيب الذي أصاب الأراضي الزراعية، وقتل المواشي، ودفع الفلاحين إلى الهجرة نحو المدن. وبعدها يستعرض الفيلم ما حدث للجزائريين إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، والاختيار الصعب الذى واجه الجزائر.
ويعتبر فيلم «وقائع سنين الجمر» لمحمد الأخضر حمينة شهادة بصرية على زمن عربي جريح، وصيغة فنية نادرة التقت فيها الذاكرة الجماعية بالسينما بوصفها فعل مقاومة. منذ مشاهده الأولى، لا يقدّم الفيلم حكاية بقدر ما يفتح جرحا تاريخا، ويترك المتفرج يتقدّم داخله ببطء، كما لو كان يسير في درب طويل محفوف بالقهر والأسئلة.
لم يتعامل “حمينة” مع الثورة الجزائرية كحدث مكتمل أو خطاب جاهز، وإنما أعاد تفكيك شروط ولادتها. فشخصية “أحمد”، الفلاح البسيط، لا تُرسم كبطل أسطوري، بل ككائن مسحوق، صامت في أغلب الوقت، تتراكم داخله الإهانات اليومية حتى تصبح الثورة فعلا حتميا لا اختيارا. وهنا تكمن قوة الفيلم في تحويل المعاناة الفردية إلى وعي جمعي.
تصاعد المعاناة نحو الثورة الجزائرية
في «وقائع سنين الجمر»، اعتمد المخرج لغة سينمائية صارمة ومفتوحة في آن واحد. فاللقطات الواسعة للأراضي القاحلة والسماء المتجهمة والقرى المعزولة لا تؤدي دور الخلفية فقط، بل تتحول إلى شخصيات فاعلة تشارك في سرد الحكاية. فتصبح الطبيعة هنا مرآة للانغلاق السياسي والاجتماعي، وامتداد لروح شعب محاصر. قد يبدو إيقاع الفيلم البطيء والمتأمل ثقيلا على المتفرج المعاصر، لكنه إيقاع مقصود يفرض زمن المعاناة بدل أن يختصره.
وقد ابتعد حمينة عن الرومانسية الثورية، وقدّم الاستعمار بوصفه منظومة عنف يومي، لا تحتاج إلى مشاهد صادمة لتأكيد وحشيتها. يكفي أن نرى مشاهد الجوع والنفي وامتهان الكرامة، حتى ندرك أن الثورة في هذا الفيلم ليست انفجارا مفاجئا، بقدر ما هي نتيجة منطقية لتراكم طويل من الإذلال.
تقوم البنية الدرامية في «وقائع سنين الجمر» على تصاعد بطيء ومدروس، يرفض منطق الحبكة الكلاسيكية القائمة على الذروة السريعة والحلول المباشرة. يقسّم محمد الأخضر حمينة الفيلم إلى مراحل زمنية متتالية، تُبنى فيها الدراما عبر التراكم لا الانفجار. ولا يعتمد السرد على حدث مركزي واحد، إنما على سلسلة من الوقائع اليومية التي تبدو عادية في ظاهرها، لكنها تحمل في عمقها بذور التحوّل. بعدها، تأتي لحظة اندلاع الثورة كضرورة تاريخية فرضها كل هذا المسار التراكمي.
فيلم يتجاوز زمنه
يتميّز أداء الأبطال في «وقائع سنين الجمر» بنزعة واقعية عميقة، تقوم على الاقتصاد في التعبير لا على المبالغة الانفعالية. اختار محمد الأخضر حمينة ممثلين يندمجون مع شخصياتهم إلى حدّ التلاشي، فبدت الأجساد والوجوه حاملة لثقل التجربة أكثر من الكلمات. وقد ارتكز أداء شخصية “أحمد” على الصمت ونظرات العين وحركات الجسد، في صدق إنساني نادر. ومن الأبطال إلى الشخصيات الثانوية، فقد أدى الممثلون أدوارهم بواقعية مؤثرة ساهمت في بناء صورة جماعية للمعاناة.
يأتي احتفاء أيام قرطاج السينمائية بفيلم «وقائع سنين الجمر» وبسينما محمد الأخضر حمينة كشكل من أشكال الاعتراف بقدرة السينما العربية والإفريقية على إنتاج خطاب سينمائي مستقل، لا يقل عمقا وجمالا عن المدارس العالمية. ومع ذلك، يبقى «وقائع سنين الجمر»، قبل أي تصنيف، فيلما جزائريا بامتياز، نابضا بروح الأرض والتاريخ والذاكرة.
مؤطر
محمد الأخضر حمينة:
أول مخرج عربي وإفريقي يفوز بالسعفة الذهبية في “كان
محمد الأخضر حمينة (1934 – 2025) هو مخرج، كاتب، وممثل جزائري بارز، يُعد أحد أعمدة السينما العربية والإفريقية. اشتهر بكونه صاحب أول سينمائي عربي وإفريقي يفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1975 عن فيلمه «وقائع سنين الجمر». توثق أعماله الفنية المقاومة الجزائرية ضد الاستعـمار الفرنسي. من أفلامه: “ريح الأوراس” (نال جائزة أفضل فيلم أول في مهرجان كان) و”حسان الإرهابي” و”ديسمبر” و”رياح رملية” و”غروب الظلال”…
