دمشق – يترقب السوريون بفارغ الصبر انفراجة اقتصادية ومعيشية، على خلفية تصويت الكونغرس الأميركي، لصالح إلغاء قانون قيصر، الذي فرض عقوبات اقتصادية واسعة على سوريا منذ عام 2019، في خطوة فتحت الباب أمام فرص إعادة الإعمار، وجذب الاستثمارات، واستعادة الثقة المفقودة بالاقتصاد السوري بعد سنوات طويلة من العزلة.
ومع ذلك، يرى خبراء أن هذه الانفراجة المحتملة ستواجه معوقات عديدة، ترتبط بضعف البنية الاقتصادية، ودمار البنية التحتية، بما فيها قطاعات أساسية كالكهرباء والمياه والاتصالات، إلى جانب ضعف الخدمات والأنظمة التي تعاني منها المؤسسات المالية.
في هذا السياق، أوضح حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، في تصريح لوكالة سانا (وكالة الأنباء السورية) الأسبوع الماضي، أن إلغاء العقوبات يمثل “محطة مفصلية” في طريق تعافي الاقتصاد، مشيرا إلى أن هذه الخطوة ستنعكس إيجابا على الاستقرار النقدي.
وأكد الحصرية أن المصرف المركزي سيتخذ جميع الإجراءات الكفيلة باستثمار هذه الفرصة بما يخدم مسار التعافي الاقتصادي.
رفع العقوبات لا يعني تعافيا تلقائيا بقدر ما يكشف عمق الفجوة بين الانفتاح والجاهزية المؤسسية (غيتي)
ومن جهته، كشف وزير المالية محمد يسر برنية، السبت الماضي، بعد رفع العقوبات، عن تفاصيل النظام الضريبي الجديد، الذي أعلن عن إنجازه في سبتمبر/أيلول الماضي، موضحا أنه يتضمن إعفاءات وحوافز لدعم الإنتاج.
وأشار الوزير إلى أن السياسات المالية الراهنة تستهدف تمكين المنشآت الصناعية من التوسع وإعادة التشغيل، وتحفيز النمو، وخلق فرص العمل.
واقع الاقتصاد السوري
وتعرضت البنية التحتية والبنية الاقتصادية السورية، خلال 14 عاما من الحرب، إلى تدمير واسع شمل مختلف جوانبها، وهو ما انعكس في انخفاض الدخل القومي السوري من نحو 60 مليار دولار في عام 2011 إلى ما دون 12 مليار دولار عام 2023. وفي موازاة ذلك، عانى القطاع المصرفي من أزمة سيولة حادة، إلى جانب هشاشة في البنية التشغيلية والأنظمة، نتيجة النزاع المستمر والعقوبات المفروضة على البلاد.
وفي معرض وصفه لواقع الاقتصاد السوري، يؤكد الباحث أدهم قضيماتي أن البنية التحتية، بما فيها قطاعات الطاقة والمياه والكهرباء، مدمرة بالكامل، وأن البنية المؤسساتية في البلاد تعرضت لتدمير واسع.
ويوضح قضيماتي، في حديث للجزيرة نت، أن الاقتصاد السوري بحاجة إلى “إعادة بناء”، مشيرا إلى أن مجمل عناصره تتطلب إعادة تأهيل بنيوي، بما في ذلك المصارف التي بقيت معزولة عن النظام المالي العالمي لفترة طويلة.
ووفقا لقضيماتي، فقد تركت سنوات العزلة وحظر التعامل مع البنوك السورية “بنية مهترئة، ومعاملات تحتاج إلى تطوير”، وأسهمت في نشوء شركات صرافة تقدم للمواطنين خدمات تفوق ما تقدمه المصارف التقليدية.
ويستبعد قضيماتي أن يكون الانفتاح الاقتصادي في البلاد أسرع من قدرة المؤسسات على استيعابه، كما حذّر بعض الخبراء، موضحا أن دخول الشركات مرتبط بوجود قوانين فاعلة ونافذة، وحوكمة حقيقية في الاقتصاد السوري. فهذه الشركات، بحسب تعبيره، عالمية ولا تعمل عبر السوق السوداء، بل تحتاج إلى قنوات رسمية ومؤسسات مالية فعالة.
وحتى مع رفع العقوبات، ما تزال هذه القنوات غير مفعّلة، الأمر الذي يحول دون تنفيذ عمليات الاستلام والتحويل الفعلي للأموال من وإلى سوريا حتى الآن.
ويتوقع الباحث الاقتصادي أن تتسبب مرحلة إعادة بناء الاقتصاد بعد قيصر في موجات اضطراب في الأسعار والخدمات، نظرا لطبيعة الاقتصاد السابق القائم على الحرب وغياب الهيكلية. ويعتبر أن إعادة تنظيم الاقتصاد تتطلب قوانين وأنظمة لضبط الخلل، وتعديل التشريعات بما يلائم التوجه نحو اقتصاد حر، وهي مرحلة تمتد عادة من 4 إلى 5 سنوات قبل الحكم على أداء الحكومة.
القطاع المصرفي السوري يواجه اختبار الاندماج مع النظام المالي العالمي بعد سنوات من العزلة (غيتي)مخاطر وتحديات
من جانبه، يشير الخبير الاقتصادي والباحث في كلية لندن للاقتصاد زكي محشي إلى أن رفع العقوبات عن سوريا لن يؤدي إلى تعافٍ اقتصادي تلقائي، بل سيكشف عن أخطار محتملة وتحديات اقتصادية ومصرفية معقدة.
ويعدد محشي أبرز هذه التحديات، وفي مقدمتها ضرورة تحديث القطاع المصرفي والمالي والنقدي، مؤكدا أن المشكلات لا تقتصر على قانون قيصر، بل تشمل ضعف الالتزام بالمعايير الدولية، ولا سيما في مجالي مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إضافة إلى محدودية الشفافية، وهو ما يجعل المصارف السورية غير مؤهلة للتعامل مع المصارف العالمية.
كما يشير إلى ضعف البنية التحتية المصرفية من حيث التجهيزات والبرمجيات والأدوات، إلى جانب تحدي العودة إلى نظام سويفت، وهو ما يتطلب تعاونا مع منظمات دولية وخبراء عالميين، وعدم الاكتفاء بالخبرات المحلية، لضمان الالتزام بالمعايير الدولية.
ويحذّر محشي من طبيعة الاستثمارات المتوقعة، التي قد تتركز على القطاعات الريعية مثل النفط والغاز والكهرباء والعقارات، بما يحقق أرباحا سريعة لفئات محدودة، ويهدد بتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي غير إنتاجي، مع آثار سلبية على المدى المتوسط والبعيد.
كذلك يشير إلى مخاطر تدفق المستوردات والانفتاح الخارجي، بما قد يضعف الإنتاج المحلي غير القادر حاليا على المنافسة، ويؤدي إلى خروجه حتى من السوق المحلية، في ظل حاجته إلى تمويل ودعم وتأهيل لفترة زمنية لاستعادة قدرته التنافسية.
ويضيف أن إغراق السوق بالسلع الاستهلاكية قد يؤدي إلى استنزاف مدخرات المواطنين في الإنفاق الاستهلاكي بدل توجيهها نحو السلع الإنتاجية، وهو ما ينعكس سلبا على الأداء الاقتصادي العام. كما يحذر من اعتماد الاستثمارات الأجنبية على خبراء أجانب، مقابل حصر دور الكفاءات السورية في مواقع ثانوية، ما يحد من نقل المعرفة وبناء الخبرات المحلية.
ويرى محشي أن من بين التحديات أيضا ازدياد الضغط على الميزان التجاري وميزان المدفوعات، نتيجة ارتفاع حجم المستوردات مقارنة بالصادرات.
رأس المال البشري السوري يبقى عنصر الحسم في أي مسار تعافٍ اقتصادي مستدام (غيتي)توصيات
وفيما يتعلق بمواجهة هذه التحديات، يشير محشي إلى مجموعة من المسارات الأساسية، أبرزها تنمية رأس المال البشري السوري وتمكينه من المنافسة في سوق مفتوحة بعد رفع العقوبات، وتوسيع التعاون مع منظمات دولية وأممية متنوعة لتقديم التدريب والدعم، بدون حصره بصندوق النقد الدولي والخضوع لشروط غير معلنة.
ويشدد الخبير على ضرورة تحديث القوانين والتشريعات الناظمة للعمل الاقتصادي والمصرفي، بالتعاون مع المؤسسات الدولية المختصة، وتعزيز المشاركة المجتمعية في الرقابة على عملية الانفتاح على السوق العالمية، من خلال الشفافية والمساءلة في الحوكمة داخل القطاعات المصرفية والمالية والنقدية والاقتصادية، لتفادي إعادة إنتاج نموذج الاقتصاد الاحتكاري ورأسمالية المحاسيب.
ويدعو محشي إلى توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية، ولا سيما القطاع الصناعي والصناعات التحويلية، بدل التركيز على الاستثمار الريعي، إضافة إلى توسيع دعم المشاريع متناهية الصغر والصغيرة، بوصفها العمود الفقري للاقتصاد السوري، إذ تشكل أكثر من 90% من إجمالي المشاريع.
في المقابل، يدعو قضيماتي إلى التركيز على القطاعات الأكثر قدرة وجاهزية للتعافي، نظرا لأن متطلباتها أقل من المشاريع الإستراتيجية الكبرى، مشيرا إلى أن القطاع النفطي يحتاج إلى بنية تحتية معقدة، في حين يتمتع قطاع الكهرباء بمرونة أكبر في عمليات الصيانة وتوسيع الشبكات، ما يجعله مرشحا للتعافي بشكل أسرع.
ويشيد قضيماتي بصدور قرارات حكومية دورية تتعلق بتعديل التشريعات القديمة في مختلف القطاعات بهدف تشجيع الاستثمار، مشيرا إلى إمكانية صدور قانون جديد متعلق بالشركات في الفترة المقبلة.
