لم تأتِ زيارة قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل، إلى باريس في سياق بروتوكولي عابر، بل بدت أشبه بمحطة سياسية دقيقة في سباق مفتوح مع الوقت، في ظل الضغوط الدولية المتصاعدة وواقع ميداني شديد التعقيد على الجبهة الجنوبية، وانسداد داخلي يعطّل المسارات الدستورية والسياسية في لبنان.

في ظل هذا المشهد، عاد الجيش اللبناني ليتصدر واجهة المشهد داخلياً وخارجياً بوصفه القناة شبه الوحيدة التي لا تزال تحظى بثقة خارجية نسبية، وركيزة الاستقرار الأخيرة في دولة تتقلص فيها هوامش القرار.

وبينما تتباين المقاربات الدولية حول كيفية التعاطي مع ملف السلاح جنوب الليطاني، تحاول باريس إعادة تثبيت دورها كوسيط فاعل، يمنح الوقت أولوية على الحسم، من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع المقاربة الأميركية أو الانجرار خلف منطق التصعيد.

في هذا التقرير، نكشف كواليس زيارة قائد الجيش اللبناني إلى باريس، وما دار في اللقاءات السياسية والعسكرية المرافقة لها، من نقاشات حول مستقبل الدور العسكري في الجنوب، وملف سلاح حزب الله، والخيارات المطروحة، إلى جانب أجواء الاجتماع الرباعي ومسارات التحرك الإقليمي الموازي، في مرحلة تتقلص فيها الهوامش وتزداد فيها الضغوط على المؤسسة العسكرية اللبنانية.

استقبال فرنسي ورسائل تتجاوز الدعم العسكري

مصادر دبلوماسية غربية قالت لـ”عربي بوست” إنه لا يمكن فصل زيارة باريس عن تأجيل الزيارة المرتقبة إلى واشنطن، ولا عن مسعى فرنسي لملء فراغ سياسي متزايد في الملف اللبناني، من دون الصدام المباشر مع المقاربة الأميركية، أو تجاوز خطوطها الحمراء.

لم تكن الحفاوة التي قوبل بها قائد الجيش اللبناني في باريس عابرة. فبحسب مصادر دبلوماسية فرنسية لـ”عربي بوست”، تعمّد الجانب الفرنسي إعطاء الزيارة بعداً سياسياً واضحاً، سواء من حيث مستوى اللقاءات أو طبيعتها، في إشارة إلى قناعة فرنسية راسخة بأن الجيش اللبناني ما زال يمثّل الركيزة الأكثر تماسكاً داخل الدولة.

وتشير المصادر إلى أن باريس ترى أن أي مقاربة واقعية للمرحلة المقبلة لا يمكن أن تتجاوز المؤسسة العسكرية، ليس بوصفها أداة ضغط، بل كشريك أساسي في إدارة الاستقرار. ومن هنا، جاء التشديد الفرنسي على ضرورة تحصين الجيش، وعدم دفعه إلى أدوار تتجاوز قدرته أو تضعه في مواجهة داخلية مفتوحة.

ويأتي ذلك في ظل ضغوط أميركية وعربية متزايدة لدفع الجيش نحو مسار تصادمي مع حزب الله، عبر طرح مشروع سحب السلاح من منطقة شمال نهر الليطاني، وهو ملف يرفض الحزب الانخراط في أي نقاش علني حوله.

نقاش يتجاوز العتاد، والجنوب في صلب الاهتمام

في اللقاءات العسكرية الرسمية، طُرحت ملفات الدعم والتجهيز والتعاون اللوجستي، غير أن جوهر النقاش تمحور حول الوضع الميداني في جنوب لبنان. وتؤكد مصادر حكومية لبنانية لـ”عربي بوست” أن قائد الجيش قدّم عرضاً مفصلاً للتحديات التي تواجه المؤسسة العسكرية، في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية ورفض الانسحاب من النقاط المحتلة.

وبحسب المصادر نفسها، شدد هيكل على أن الجيش نفّذ ما هو مطلوب منه ضمن الإمكانات المتاحة، وأن أي خطوات إضافية تتطلب دعماً عملياتياً فعلياً وغطاء سياسياً واضحاً، لا الاكتفاء بالتزامات شفهية.

كما أبلغ الجانب الفرنسي أن الجيش لن يقبل بأن يتحول إلى أداة لتنفيذ إملاءات خارجية، أو أن يُدفع للعمل بناءً على معلومات غير موثقة أو مزاعم ميدانية غير مثبتة، محذراً من محاولات إسرائيلية لدفع البلاد نحو اقتتال داخلي، وتحويل الجيش من راعٍ للاستقرار إلى طرف في صراع ممتد.

الاجتماع الرباعي: السلاح في صلب النقاش

المحطة الأبرز في الزيارة تمثّلت في الاجتماع الرباعي الذي جمع ممثلين عن فرنسا والولايات المتحدة والسعودية، إلى جانب قائد الجيش اللبناني. ووفق ما تسرّب من أجواء اللقاء، انتقل النقاش مباشرة إلى مستقبل التعامل مع سلاح حزب الله، وربط أي دعم دولي إضافي بمسار هذا الملف.

وتشير مصادر حكومية لبنانية إلى تباين واضح في المقاربات؛ إذ تمسكت السعودية بمبدأ حصر السلاح بيد الدولة من دون طرح صيغ انتقالية واضحة، فيما أبدى الجانب الأميركي مرونة أكبر تجاه مقاربة مرحلية تقوم على إدارة الواقع بدل تفجيره.

في المقابل، حاولت فرنسا لعب دور الوسيط، مستندة إلى ما تعتبره أداءً منضبطاً للجيش خلال المرحلة الماضية، وقدرته على تنفيذ مهامه بالحد الأدنى من الموارد.

“الاحتواء” كخيار عملي لإدارة المرحلة

عاد طرح “الاحتواء” إلى الواجهة كخيار عملي لإدارة المرحلة، يقوم على إبقاء السلاح شمال نهر الليطاني خارج الاستخدام، من دون الذهاب إلى مواجهة مباشرة، مقابل تعزيز دور الجيش وانتشاره وضبط الوضع الميداني.

وتؤكد مصادر دبلوماسية فرنسية أن هذا الطرح ليس جديداً، لكنه يكتسب زخماً متزايداً في ظل قناعة متنامية بأن فرض حلول سريعة قد يؤدي إلى انفجار أمني لا ترغب به العواصم المعنية.

ووفق مصدر مطلع، عرض قائد الجيش خطة تقضي بتطويع 6000 عسكري جديد، مهمتهم الأساسية منع الوصول إلى مخازن السلاح شمال الليطاني ومصادرة أي سلاح متحرك، بالتوازي مع إطلاق مسار حواري داخلي بين الدولة اللبنانية وحزب الله، برعاية إقليمية ودولية.

مسارات موازية ما بين القاهرة وأنقرة والدوحة

بالتوازي، يشير مصدر حكومي لبناني رفيع إلى أدوار إقليمية متعددة تسعى إلى بلورة صيغة تسوية مغطاة خارجياً، لافتاً إلى دور مصري عبر وزير الخارجية بدر عبد العاطي ومدير المخابرات العامة اللواء حسن رشاد، الذي يستعد لاستقبال وفد من حزب الله في القاهرة مطلع العام المقبل.

كما لا يمكن فصل التحرك التركي تجاه إيران، في ضوء زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان إلى طهران، عن الجهود الرامية لمنع التصعيد بين سوريا من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى، إلى جانب الدور القطري عبر تحركات وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في واشنطن، والتي شملت الملف اللبناني بشكل مباشر.
بالتوازي مع هذه المسارات، انعقد اجتماع لجنة مراقبة وقف إطلاق النار في الناقورة، وسط أجواء وُصفت بالسلبية. وبحسب المعلومات، لم يحقق الاجتماع أي تقدم، وعكس تصلباً إسرائيلياً واضحاً.

ونقل الجانب الإسرائيلي ثلاثة مواقف حاسمة: لا إفراج عن الأسرى، لا انسحاب من النقاط المحتلة، ولا وقف للضربات. وهو ما اعتبرته مصادر حكومية لبنانية تكريساً لسياسة الأمر الواقع، لا تمهيداً لأي تهدئة، في ظل رسائل بريطانية عن تحضير إسرائيل لضربة عسكرية قاسية خلال أسابيع.

ورغم إبداء الجانب اللبناني ليونة وتأكيده تنفيذ ما هو مطلوب ضمن خطة الانتشار وسحب السلاح جنوب الليطاني، لم يلقَ ذلك أي تجاوب إسرائيلي.

الجيش اللبناني وضغط الوقت وتضييق الهوامش

في المحصلة، يتقلص هامش المناورة تدريجياً. فالولايات المتحدة لا ترغب في إبقاء المرحلة الانتقالية مفتوحة، وتربط أي دعم إضافي بتنفيذ ملموس على الأرض. وفي المقابل، يحاول حزب الله كسب الوقت بانتظار تحولات إقليمية، وهو أسلوب لم يعد يحظى بالقبول الدولي السابق.

تكشف زيارة باريس مشهداً بالغ التعقيد: فرنسا تحاول ضبط الإيقاع ومنح الجيش فرصة إضافية، واشنطن تمسك بمفاتيح القرار النهائي، إسرائيل تواصل فرض الوقائع بالقوة، والسعودية تراقب من دون التزام واضح.

في قلب هذا المشهد، يقف الجيش اللبناني أمام معادلة شديدة الحساسية: الحفاظ على الاستقرار، وتنفيذ التزامات دقيقة، من دون الانجرار إلى صدام داخلي أو التحول إلى طرف في مواجهة إقليمية مفتوحة.