لم تكن فلسطين يوماً غائبة عن السينما، لكنها غالباً ما حضرت بوصفها جرحاً مفتوحاً أكثر مما حضرت كحكاية مكتملة الجذور. معظم الأفلام، الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، انشغلت بالنتائج، بالنكبة وما تلاها، بالاقتلاع واللجوء والصدمة، بينما تركت لحظة التأسيس في الهامش، كأن ما حدث عام 1948 كان انفجاراً مفاجئاً بلا مقدمات.

هنا تحديداً يأتي فيلم “فلسطين 36” لآن ماري جاسر، لا ليضيف عنواناً جديداً إلى الأرشيف السينمائي الفلسطيني، بل ليعود للصفحة الأولى، للحظة التي لم تبدأ فيها المأساة بعد، لكنها كانت تبنى خطوة خطوة، بقوانين، وبنادق، وقرارات استعمارية باردة. الفيلم لا يسأل ماذا خسر الفلسطينيون، بل كيف بدأت الخسارة، ومن الذي مهد لها، وكيف تواطأت البنية الاستعمارية مع المشروع الصهيوني لتجعل النكبة ممكنة لاحقاً.

حكاية يوسف

يستعيد الفيلم أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939 ضد الانتداب البريطاني، لا بوصفها انفجار غضب عشوائياً، بل كحركة شعبية واسعة ذات جذور اجتماعية وسياسية واضحة. وهي واحدة من أهم لحظات التاريخ الفلسطيني المقاوم، لكنها ظلت هامشية في الثقافة السينمائية العالمية مقارنة بفترات لاحقة مثل 1948 أو 1967. الثورة هنا ليست خلفية درامية، بل جوهر العمل، وهي تروى عبر بنية سردية تتخذ من يوسف، الشاب القروي البسيط، مدخلاً إلى المشهد الأكبر.

يوسف الذي يؤديه كريم داود عناية، ليس بطلاً تقليدياً. لا يبدأ رحلته وهو مشبع بالخطاب السياسي، ولا يحلم بالثورة. هو شاب يبحث عن عمل في القدس، عن فرصة نجاة فردية في زمن يضيق.

لكن انتقاله بين القرية والمدينة يكشف له، وللمشاهد، شبكة القهر الكاملة: فلاحون تصادر أراضيهم، وعمال يستبدلون بعمال يهود، ونخب محلية مترددة أو متواطئة، ومثقفون يحاولون التوفيق بين المبادئ والبقاء، وإدارة بريطانية تدير المشهد ببرود استعماري صارخ.

مع تصاعد القمع، والإعدامات الميدانية، وهدم القرى، والعقاب الجماعي، يتحول يوسف، مثل كثيرين، من شاهد إلى جزء من الحدث. حمل السلاح لا يأتي هنا كخيار رومنسي، بل ضرورة وجودية. يقول الفيلم بوضوح: الراديكالية لم تكن خياراً أيديولوجياً، بل نتيجة طبيعية للعنف الاستعماري.

منذ بداياته، يعلن العمل رفضه للصيغة السينمائية السائدة التي تختصر التاريخ في بطل واحد. يوسف هو بوابة الدخول، لكنه لا يحتكر السرد. ثقل الفيلم يتوزع على شبكة واسعة من الشخصيات التي تؤديها أسماء لامعة مثل هيام عباس وصالح بكري وكامل الباشا وياسمين المصري وظافر العابدين، إلى جانب جيريمي آيرونز في دور المفوض السامي البريطاني ووليام كانينغهام.

 

لقطة من العمل (مواقع التواصل)

لقطة من العمل (مواقع التواصل)

 

هذا التشتت الظاهري ليس خللاً بنيوياً، بل موقف فكري واضح. يتبنى الفيلم منطق البطولة الجماعية، ما يهم هنا ليس مصير فرد، بل حركة مجتمع بكامله، لكن لهذا الخيار ثمن سينمائي.

غياب شخصية مركزية طاغية يجعل التعلق العاطفي أصعب، خصوصاً لدى مشاهد معتاد على السينما الغربية التي تقدم له “خيطاً آمناً” يقوده من البداية إلى النهاية. الإرباك هنا حقيقي، لكنه إرباك منتج، يجبر المشاهد على إعادة التفكير في طريقة استهلاكه للتاريخ.

من الحميمي إلى الملحمي

تعرف آن ماري جاسر (مواليد بيت لحم – 1974) بأفلامها الحميمية التي اشتغلت على العلاقة الدقيقة بين الفرد والسياسة، كما في “ملح هذا البحر” و”لما شفتك” و”واجب”. تخوض في «فلسطين 36»، مغامرة مختلفة تماماً، انتقال واضح من السينما الشخصية إلى السينما التاريخية الواسعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لغة الفيلم البصرية تتسع، والمشاهد جماعية، والسرد يتداخل مع مواد أرشيفية، ويقترب أحياناً من الروح الوثائقية. جاسر لا تبحث هنا عن لحظة بكاء، بل عن لحظة إدراك. تريد للمشاهد أن يرى الصورة كاملة، حتى لو جاء ذلك على حساب الانفعال اللحظي.

غير أن هذا الطموح يصطدم أحياناً بإيقاع تعليمي يميل إلى الشرح والتأطير، إذ يقدم الفيلم المعلومات بوضوح، وربما بكثرة، مما يجعل أثره أقوى في مستوى الوعي التاريخي منه على المستوى العاطفي.

الانتداب البريطاني

تكمن واحدة من أكثر نقاط قوة الفيلم، في وضوح موقفه السياسي، لا بوصفه شعاراً خطابياً، بل كخيار سردي وأخلاقي متكامل. يرفض العمل المنطقة الرمادية التي اعتادت عليها السينما الغربية عند تناول التاريخ الاستعماري، ولا يلجأ إلى تورية “تعدد الروايات” حين تكون موازين القوة مختلة جذرياً. هنا لا التباس ولا مهادنة: بريطانيا ليست وسيطاً، بل طرفاً استعمارياً كاملاً، مسؤولاً مباشرة عن إدارة القمع وتشريع المشروع الصهيوني.

يتجسد هذا الموقف بوضوح في شخصية المفوض السامي، التي يؤديها جيريمي آيرونز ببرود متعال ومدروس. هو ليس شريراً كاريكاتورياً، بل إداري أنيق يدير العنف بعقلية بيروقراطية، إذ تمارس الإعدامات والعقاب الجماعي باسم القانون والنظام. القمع في الفيلم ليس نتيجة تجاوزات فردية، بل سياسة ممنهجة تنبع من صلب المنظومة الاستعمارية نفسها.

 

آن ماري جاسر (ويكيبيديا)

آن ماري جاسر (ويكيبيديا)

 

حتى التقسيم التقليدي بين “البريطاني الجيد” و”البريطاني السيئ” لا يخرج عن هذا الإطار، المتعاطف يظل عاجزاً، محكوماً ببنية لا تسمح بالفعل الأخلاقي الحقيقي، فيما يجسد أوردي وينغيت الغطرسة والعنف العاري حين يرفع القناع عن الاستعمار.

كلاهما، على رغم اختلاف الأسلوب، يؤدي الوظيفة ذاتها: خدمة التاج وحماية النظام القائم. لا يوازن الفيلم بين الجلاد والضحية، ولا يمنح الاستعمار فرصة تبريرية باسم التعقيد الدرامي، والدلالة الأوضح لهذا الموقف أن الفيلم يكاد يخلو من شخصيات يهودية فاعلة.

الصهيونية لا تقدم كحكاية أفراد أو خيار شخصي، بل كمشروع يدار من فوق، عبر الإدارة البريطانية وأجهزتها العسكرية والسياسية. هذا الاختيار الدلالي يعيد توجيه الاتهام لمركزه الحقيقي، ويحرر السرد من الانزلاق إلى نقاشات جانبية تشتت المسؤولية التاريخية.

ولهذا يختار الفيلم الوضوح موقفاً أخلاقياً، قبل أن يكون خياراً فنياً.

“فلسطين 36” ليس فيلماً بلا عيوب، كثرة الشخصيات والإيقاع البطيء أحياناً والمسافة العاطفية التي تفصل المشاهد عن بعض الأبطال، كلها ملاحظات مشروعة. لكنه، في المقابل، عمل جريء، ومثقل بالمعرفة، وصادق في موقفه.

يذكر بحقيقة بسيطة ومؤلمة: ما نعيشه اليوم لم يولد فجأة، بل بدأ هناك، في فلسطين، عام 1936.