Published On 21/12/202521/12/2025

|

آخر تحديث: 16:50 (توقيت مكة)آخر تحديث: 16:50 (توقيت مكة)

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

بيروت- في ساحة ثانوية الراهبات الأنطونيات الكاثوليكية في بلدة رومية، بقضاء المتن في محافظة جبل لبنان، لم يكن المشهد احتفالا تقليديا بميلاد جديد، بل محاولة لصناعة معنى مختلف للبهجة في بلد أثقلته الأزمات والحروب. شجرة ميلاد ترتفع نحو 3 أمتار، لا تتلألأ بالأضواء المعتادة، بل تفوح منها رائحة الصابون البلدي اللبناني، حاملة رسالة تتجاوز الزينة والمناسبة لتلامس جوهر العيش المشترك والذاكرة الجماعية للبنانيين.

وشهدت بلدة رومية افتتاح أكبر شجرة ميلاد مصنوعة من الصابون الطبيعي في العالم، بوزن يتجاوز الطنين، خلال احتفال أقيم على مسرح نديم خلف في ثانوية الراهبات الأنطونيات – مار ضوميط، تحت عنوان “ميلاد يصنع مواطنا”. حضر الاحتفال ممثلون عن الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب شخصيات دينية من الطائفتين السنية والشيعية، وفعاليات تربوية وبلدية، إضافة إلى حشد من الطلاب وأهالي المنطقة، في مشهد عكس رغبة اللبنانيين في استعادة مساحات اللقاء رغم الانقسامات.

اقرأ أيضا list of 2 itemsend of list

وصنعت الشجرة بالكامل من الصابون الطبيعي اللبناني، بالتعاون مع مختصين من “خان الصابون” في قرية بدر حسون، المعروفة بإرثها العريق في هذه الحرفة التي تعود إلى مئات السنين. واستغرق العمل على هذه الأرزة 45 يوما، وجاءت مكوّناتها من مختلف المناطق اللبنانية، من الجنوب والبقاع وكسروان وجبل لبنان وعكّار وطرابلس وبعقلين في الشوف، لتتحول الشجرة إلى خريطة مصغرة للوطن.

وفي بلد يواجه فيه القطاع الحرفي خطر الاندثار تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، حملت هذه المبادرة بعدا إنقاذيا للذاكرة، وسعيا لإعادة الاعتبار للصناعات التقليدية التي شكلت لعقود جزءا أساسيا من الهوية الثقافية والاقتصادية للبنان.

شجرة ميلاد مصنوعة من الصابون اللبناني بوزن يتخطى طنينشجرة ميلاد مصنوعة من الصابون اللبناني بوزن يتخطى طنين (الجزيرة)حرفة تقاوم النسيان

يعد “خان الصابون” في قرية بدر حسون أحد أبرز المعالم الحرفية التراثية في شمال لبنان، وحارسا لذاكرة صناعة الصابون الطبيعي التي تعود جذورها إلى قرون طويلة. فمنذ تأسيسه، لم يكن الخان مجرد مساحة إنتاج، بل منصة للحفاظ على هذه الحرفة التقليدية وتطويرها من دون المساس بجوهرها، القائم على المكوّنات الطبيعية والزيوت النباتية المحلية.

وعلى الرغم من التحولات الاقتصادية العميقة التي عصفت بالبلاد، استطاع “خان الصابون” أن يحافظ على حضوره، وأن يحول الصابون من منتج يومي بسيط إلى رسالة ثقافية وإنسانية عابرة للحدود.

ومن هذا الإرث تحديدا انطلقت فكرة شجرة الميلاد المصنوعة من الصابون، بوصفها امتدادا لفلسفة ترى في الحرفة ذاكرة وهوية، وفي العمل الجماعي وسيلة لإعادة وصل ما انقطع بين التراث والإنسان.

“صُنعت بالقلب”

يقول المدير التنفيذي لشركة خان الصابون أمير بدر حسون، للجزيرة نت، إن هذه الفكرة “لم تُنجَز باليدين فقط بل صُنعت بالقلب”، معتبرا أنها تشبه “لبنان الجميل، لبنان الرسالة”، ويضيف أن الأرزة المصنوعة من الصابون والمرافقة لنجمة صُنعت من المادة نفسها، “عمل يجمع ولا يفرّق، ورسالة عطرية تنطلق من قلب الشرق إلى العالم”.

ويشير حسون إلى أن رجال دين من جميع الطوائف اللبنانية شاركوا في صنع هذه الشجرة، في مشهد أراد له أن يكون موقفا واضحا ضد الطائفية والعنصرية، ودعوة صادقة إلى الوحدة، ويقول “عندما نفكّر بإيجابية ونتجاوز الانقسامات السياسية والطائفية يمكننا أن ننتج أعمالا توحد ولا تفرق”.

أما العطر، فليس تفصيلا عابرا، فقد اختير زهر الليمون، رمز مدينة طرابلس “مدينة العلم والعلماء”، ليكون الرائحة الطاغية، لأن “العطر ذاكرة لا تُنسى”، كما يشرح حسون، ولأنه رسالة قادرة على عبور الحدود.

من الاحتفال إلى الفعل الإنساني

لم يقتصر الحدث على طابعه الاحتفالي، بل امتد إلى مبادرة إنسانية ذات دلالة عميقة، فبعد إسدال الستار على الشجرة، جرى الإعلان عن تقسيمها وتوزيعها على دور الأيتام الإسلامية والمسيحية في مختلف المناطق اللبنانية. “هذا الصابون هو شاي أخضر مع زهر الليمون وسيكون هدية حب”، يقول حسون، إن هذه المبادرة “لن تنطلق من طرابلس أو من عائلتي فقط، بل من كل لبنان”.

وقد اختُتم النشاط بتوجه تلامذة المدرسة إلى دور العجزة والأيتام، حاملين معهم قطعا من الصابون البلدي، في مشهد جمع بين التربية على العطاء والعمل التطوعي، وترسيخ قيم التضامن الاجتماعي.

قسمت شجرة الصابون ووزعت على دور الأيتام في لبنانقسمت شجرة الصابون ووزعت على دور الأيتام في لبنان (الجزيرة)التربية على المواطنة

من جهتها، توضح معلّمة الكيمياء الثقافية في مدرسة الأنطونية – رومية، والمسؤولة عن الفعالية، ريتا جنحو، للجزيرة نت أن المدرسة كانت صاحبة المساهمة الأكبر في تنفيذ المشروع، بالتعاون مع قرية بدر حسون. وتقول إن الهدف من هذا العمل هو “تعزيز المشاركة وقيم العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في لبنان”، مشيرة إلى أن الطلاب شاركوا في مختلف مراحل المشروع، من الفكرة إلى التنفيذ.

وتضيف أن اختيار الصابون لم يكن اعتباطيا، إذ يرمز إلى النقاء والسلام، ويعكس فكرة أن المواطنة تُصنع بالقيم اليومية البسيطة، لا بالشعارات الكبرى وحدها.

رسالة ميلادية حملت رسائل العيش المشترك في لبنانرسالة ميلادية حملت رسائل العيش المشترك في لبنان (الجزيرة)بهجة ورسالة

في بلد أنهكته الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يأتي هذا الحدث ليؤكد أن البهجة لا تزال ممكنة، ولو بصيغة مختلفة. شجرة ميلاد من الصابون، لكنها في جوهرها محاولة لإعادة تعريف معنى الاحتفال، وربطه بالفعل الإنساني والعمل الجماعي، والتمسّك بما تبقّى من مساحة مشتركة بين اللبنانيين.

وهكذا، لم تكن شجرة رومية مجرد رقم قياسي جديد، بل حكاية وطن يبحث عن نفسه في تفاصيله الصغيرة، ويصرّ -رغم كل شيء- على أن يكون رسالة.