“إن ميلاد الرب يحمل معه عطية السلام ويدعونا لنصبح علامة نبوية له في سياق إنساني وثقافي شديد التجزؤ. إن عمل الكوريا والكنيسة بصفة عامة يجب أن يُصاغ في هذا الأفق الواسع: فنحن لسنا بستانيين صغاراً يعتنون بحديقتهم الخاصة، بل نحن تلاميذ وشهود لملكوت الله، مدعوون لنكون في المسيح خميرة للأخوة الشاملة، بين شعوب مختلفة وأديان متنوعة، وبين النساء والرجال من كل لغة وثقافة. وهذا لا يتحقق إلا إذا عشنا نحن أولاً كإخوة وجعلنا نور الشركة يسطع في العالم” هذا ما قاله البابا في كلمته إلى أعضاء الكوريا الرومانية
استقبل قداسة البابا لاوُن الرابع عشر صباح اليوم الاثنين في قاعة البركات أعضاء الكوريا الرومانية لتبادل التهاني بمناسبة عيد الميلاد المجيد وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وقال يوافينا نور الميلاد داعياً إيانا لنكتشف مجدّدًا تلك الحداثة التي تسري في أوصال التاريخ البشري انطلاقاً من مغارة بيت لحم المتواضعة. وإذ تجذبنا هذه الحداثة التي تعانق الخليقة جمعاء، نسير بابتهاج ورجاء، لأن المخلص قد وُلد لنا: الله تجسد وصار لنا أخاً، ويبقى إلى الأبد الله معنا.
تابع الأب الأقدس يقول بهذا الابتهاج الماثل في القلوب، وبشعور مفعم بالامتنان العظيم، ننظر إلى الأحداث المتلاحقة، حتى في حياة الكنيسة. فها نحن على عتبة أعياد الميلاد المجيدة، وإذ أحييكم جميعاً من القلب وأشكر عميد مجمع الكرادلة على كلماته التي تفيض دوماً حماساً، أودّ أولاً أن أتذكر سلفي الحبيب البابا فرنسيس، الذي اختتم في هذا العام حياته الأرضيّة. إن صوته النبوي، ونهجه الرعوي، وتعاليمه الغنية قد طبعت مسيرة الكنيسة في هذه السنوات، وحفزتنا بصفة خاصة على إعادة رحمة الله إلى المحور، وإعطاء دفعة قوية للبشارة، ونكون كنيسة متهللة بالفرح، تستقبل الجميع، وتتنبّه للأشد فقراً. وإذ أستلهم من إرشاده الرسولي “فرح الإنجيل”، أودّ أن أعود إلى جانبين جوهريين في حياة الكنيسة: الرسالة والشركة.
أضاف الأب الأقدس يقول إن الكنيسة، بطبيعتها، منفتحة نحو الخارج، وموجّهة نحو العالم، وإرسالية. لقد نالت من المسيح عطية الروح لتحمل للجميع بشرى محبة الله السارة. وكعلامة حية لهذه المحبة الإلهية للبشرية، فإن الكنيسة قد وُجدت لتدعو وتجمع الناس إلى المأدبة الاحتفالية التي أعدها الرب لنا، لكي يكتشف كل فرد أنه ابن محبوب، وأخ للقريب، وإنسان جديد على صورة المسيح، ومن ثمَّ شاهداً للحق والعدل والسلام. يشجّعنا الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” على المضي قدماً في التحول الإرسالي للكنيسة، التي تستمد قوتها التي لا تنضب من تفويض المسيح القائم من بين الأموات. “ففي أمر يسوع هذا “اذهبوا”، تحضر السيناريوهات والتحديات المتجددة دوماً لرسالة الكنيسة التبشيرية، ونحن جميعاً مدعوون لهذا “الخروج” الإرسالي الجديد”. وحالة الرسالة هذه تنبع من كون الله نفسه هو الذي بادر أولاً بالمسير نحونا، وفي المسيح جاء ليبحث عنا. فالرسالة تبدأ من قلب الثالوث الأقدس: إذ قدّس الله الابن وأرسله إلى العالم لكي “لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”. لذا، فإن أول “خروج” عظيم هو خروج الله من ذاته ليأتي للقائنا. وسر الميلاد يعلن لنا هذا تحديداً: إن رسالة الابن تكمن في مجيئه إلى العالم.
تابع الحبر الأعظم يقول وهكذا، فإن رسالة يسوع على الأرض، والتي يمتد أثرها بالروح القدس في رسالة الكنيسة، تصبح معياراً لتمييز حياتنا، ومسيرة إيماننا، والممارسات الكنسية، فضلاً عن الخدمة التي نؤديها في الكوريا الرومانية. فالأطر والهيكليات لا ينبغي أن تُثقل كاهل الإنجيل أو تبطئ مساره أو تعيق حيوية التبشير؛ بل على العكس، يجب علينا أن نعمل على أن تصبح جميعها أكثر إرسالية. وبناءً على روح المسؤولية المشتركة النابعة من المعمودية، نحن مدعوون جميعاً للمشاركة في رسالة المسيح. كما يجب أن يستنير عمل الكوريا بهذا الروح ويعزز العناية الرعوية في خدمة الكنائس المحلية ورعاتها. نحن بحاجة إلى كوريا رومانية أكثر إرسالية، حيث تُصاغ المؤسسات والمكاتب والمهام بالنظر إلى التحديات الكنسية والرعوية والاجتماعية الكبرى في عصرنا الحالي، وليس فقط لضمان الإدارة العادية. وفي الوقت عينه، ترتبط الرسالة في حياة الكنيسة ارتباطاً وثيقاً بالشركة. فسر الميلاد، بينما يحتفي برسالة ابن الله بيننا، يتأمل أيضاً في غايتها: فالله قد تصالح مع العالم بالمسيح وجعلنا فيه أبناءً له. يذكرنا الميلاد بأن يسوع جاء ليكشف لنا وجه الله الحقيقي كأب، لكي نصبح جميعاً أبناءه، وبالتالي إخوة وأخوات فيما بيننا. إن محبة الآب، التي جسّدها يسوع وأظهرها في أفعال التحرير وفي تبشيره، تجعلنا قادرين، بالروح القدس، على أن نكون علامة لإنسانية جديدة، لا تقوم على منطق الأنانية والفردية، بل على المحبة المتبادلة والتضامن المشترك. وهذه مهمة ملحة للغاية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
أضاف الأب الأقدس يقول هي ملحة داخلياً، لأن الشركة في الكنيسة تبقى على الدوام تحدياً يدعونا إلى التوبة. فأحياناً، وخلف هدوء ظاهري، تتحرك أشباح الانقسام، وهذا الأمر يجعلنا نقع في تجربة التأرجح بين نقيضين: إما توحيد كل شيء قسراً بدون تقدير الاختلافات، أو على العكس، تضخيم التباينات ووجهات النظر بدلاً من السعي وراء الشركة. وهكذا، في العلاقات الإنسانية، وفي الديناميكيات الداخلية للمكاتب والمهام، أو عند معالجة القضايا المتعلقة بالإيمان والليتورجيا والأخلاق وغيرها، يُخشى الوقوع ضحية للجمود أو الأدلجة، وما يتبع ذلك من صراعات. لكننا نحن كنيسة المسيح، نحن أعضاؤه، وجسده. نحن إخوة وأخوات فيه. وفي المسيح، ورغم كوننا كثيرين ومختلفين، فنحن واحد”In Illo uno unum” . نحن مدعوون، لاسيما هنا في الكوريا، لكي نكون بناة لشركة المسيح، التي تتطلب أن تتجسد في كنيسة سينودسية، حيث يتعاون الجميع ويتآزرون في الرسالة ذاتها، كلٌ حسب موهبته والدور الذي ناله. ولكن هذا يُبنى بالأفعال والمواقف الملموسة في حياتنا اليومية، وحتى في نطاق العمل، أكثر مما يُبنى بالكلمات والوثائق. يطيب لي أن أتذكر ما كتبه القديس أوغسطينوس في رسالته إلى “بروبا”: “في كل الشؤون البشرية، لا شيء عزيز على الإنسان بدون صديق”. ولكنه كان يتساءل بشيء من المرارة: “ولكن كم يوجد من الأصدقاء المخلصين الذين يمكننا الوثوق بهم وبسلوكهم في هذه الحياة؟”.
تابع الحبر الأعظم يقول هذه المرارة تجد طريقها أحياناً إلينا، حين نلاحظ بخيبة أمل – ربما بعد سنوات طويلة من الخدمة في الكوريا – أن بعض الديناميكيات المرتبطة بممارسة السلطة، وهوس الظهور، ورعاية المصالح الشخصية، لا تتغير بسهولة. ويسأل المرء نفسه: هل من الممكن أن نكون أصدقاء في الكوريا الرومانية؟ هل يمكننا بناء علاقات أخوة وصداقة؟ في خضم التعب اليومي، من الجميل أن نجد أصدقاء نثق بهم، حيث تسقط الأقنعة والمراوغات، وحيث لا ييتمُّ استغلال الأشخاص أو تهميشهم، بل يعين الواحد الآخر، ويتمُّ الاعتراف بقيمة كل فرد وكفاءته، بعيداً عن خلق الاستياء والضغينة. إنه ارتداد شخصي يجب أن نرغب به ونسعى إليه، لكي تتجلى في علاقاتنا محبة المسيح التي تجعلنا إخوة. وهذا يصبح علامة خارجية أيضاً، في عالم جريح بالشقاق والعنف والصراعات، حيث نشهد تصاعداً في العدوانية والغضب، اللذين غالباً ما يتم استغلالهما في العالم الرقمي كما في السياسة. إن ميلاد الرب يحمل معه عطية السلام ويدعونا لنصبح علامة نبوية له في سياق إنساني وثقافي شديد التجزؤ. إن عمل الكوريا والكنيسة بصفة عامة يجب أن يُصاغ في هذا الأفق الواسع: فنحن لسنا بستانيين صغاراً يعتنون بحديقتهم الخاصة، بل نحن تلاميذ وشهود لملكوت الله، مدعوون لنكون في المسيح خميرة للأخوة الشاملة، بين شعوب مختلفة وأديان متنوعة، وبين النساء والرجال من كل لغة وثقافة. وهذا لا يتحقق إلا إذا عشنا نحن أولاً كإخوة وجعلنا نور الشركة يسطع في العالم.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الأعزاء، إن الرسالة والشركة ممكنتان إذا أعدنا المسيح إلى المحور. لقد ذكرنا “اليوبيل” في هذا العام بأن المسيح وحده هو الرجاء الذي لا يخيِّب. وخلال السنة المقدسة، ذكرتنا مناسبات هامة بحدثين آخرين: مجمع نيقية، الذي يعيدنا إلى جذور إيماننا، والمجمع الفاتيكاني الثاني، الذي بتثبيت نظره على المسيح، وطّد أركان الكنيسة ودفع بها للقاء العالم، في الإصغاء إلى أفراح وآمال، وأتراح وقلق إنسان اليوم. اسمحوا لي أخيراً أن أذكر أنه لخمسين سنة خلت، في يوم “عيد الحبل بلا دنس”، أصدر القديس بولس السادس الإرشاد الرسولي “إعلان الإنجيل” الذي كُتب بعد الجمعيّة العامة العادية لسينودس الأساقفة. وهو يؤكد على حقيقتين نذكرهما هنا: أن “الكنيسة جمعاء تنال رسالة التبشير، وعمل كل فرد هو مهم للكل”؛ وفي الوقت عينه، القناعة بأن “شهادة الحياة المسيحية الأصيلة، المستسلمة لله في شركة لا ينبغي لشيء أن يقطعها، والتي تبذل للقريب بغيرة لا تحدها حدود، هي الوسيلة الأولى للبشارة”. فلنتذكر هذا أيضًا في خدمتنا في الكوريا الرومانية: إنَّ عمل كل فرد مهم للكل، وشهادة الحياة المسيحية التي يتمُّ التعبير عنها في الشركة هي الخدمة الأولى والأسمى التي يمكننا أن نقدّمها.
وختم البابا لاوُن الرابع عشر كلمته بالقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن الرب ينحدر من السماء وينحني نحونا. وكما كتب “بونهوفر” متأملاً في سر الميلاد: “إنَّ الله لا يخجل من وضاعة الإنسان، بل يدخل فيها… الله يحب ما هو ضائع، وما لا يتمُّ اعتباره، والتافه، والمهمش، والضعيف، والمنكسر”. ليمنحنا الرب تواضعه وشفقته ومحبّته، لكي نكون له تلاميذًا وشهوداً في كل يوم. أتمنى لكم جميعاً من كل قلبي ميلاداً مجيداً. ولِيَفِضِ الرب بنوره علينا ويمنح العالم السلام!
