“الصرام”.. حين يصبح التراث مادة درامية حيّة على الخشبة
تقدّم مسرحية “الصرام” نموذجًا لافتًا لكيف يمكن للمسرح أن يشتغل على التراث بوصفه مادة حية، لا مجرد خلفية جمالية أو حنين إلى الماضي. فالعمل لا يكتفي باستدعاء موسم جني التمور كحدث زراعي معروف في البيئة الأحسائية، بل يحوّله إلى بنية درامية كاملة، تتقاطع داخلها الأسئلة الاجتماعية والإنسانية، وتنكشف من خلالها علاقات القوة والضعف، والانتماء والخوف، والعمل والسلطة.
منذ المشهد الأول، يضع العرض المتلقي داخل فضاء مسرحي واضح الهوية، حيث تتداخل حركة الممثلين مع الإيقاع البصري والموسيقي في بناء عالم يستمد مفرداته من الأرض والنخيل، دون الوقوع في فخ التزيين الفولكلوري. هنا، ينجح العرض في تحقيق توازن صعب بين الخصوصية المحلية والبعد الإنساني العام، وهو ما يمنحه قدرة على التواصل مع جمهور متنوع، لا يشترط أن يكون ملمًا بتفاصيل البيئة التي ينطلق منها.
النص المسرحي لعبدالعزيز السماعيل يقوم على بنية درامية هادئة، تتقدم تدريجيًا، معتمدًا على تصاعد الصراع لا على المفاجآت السريعة. الصرام ليس مجرد خلفية زمنية، بل محرك أساسي للأحداث، يكشف طبيعة العلاقات بين المزارعين، ويعرّي ممارسات الاستغلال، ويضع الشخصيات أمام لحظات اختبار أخلاقي حاسمة. ويحسب للنص ابتعاده عن الخطاب المباشر، إذ يترك للمواقف أن تقول ما تريد قوله، من دون شروحات أو أحكام جاهزة.
على المستوى الإخراجي، يقدّم سلطان النوه رؤية قائمة على الانضباط والاقتصاد في الوسائل. الإخراج لا يسعى إلى لفت الانتباه لنفسه بقدر ما يعمل على خدمة النص والممثل، وهو خيار ذكي في عرض يعتمد أساسًا على الحالة الإنسانية. حركة الممثلين محسوبة، والإيقاع العام متوازن، مع مساحات صمت مدروسة تُستخدم كأداة درامية، لا كفراغ زمني.
السينوغرافيا في “الصرام” تشكّل عنصرًا فاعلًا في السرد، لا مجرد ديكور ثابت. استخدام الخامات المستوحاة من بيئة النخيل يمنح الخشبة ملمسًا بصريًا صادقًا، بينما تلعب الإضاءة دورًا مهمًا في الانتقال بين الحالات النفسية للشخصيات، خصوصًا في المشاهد التي تتكثف فيها مشاعر الخوف أو القهر. هذا التوظيف الواعي للعناصر البصرية يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة المسرح بوصفه فنًا تركيبيًا.
الأداء التمثيلي يُعد من أبرز نقاط قوة العرض. فقد قدّم الممثلون شخصياتهم بوعي داخلي واضح، بعيدًا عن المبالغة أو الأداء الخارجي. شخصية “بوحمد”، التي جسدها علي الشويفعي، تظهر كنموذج للسلطة الجافة، القائمة على الامتلاك والاستغلال، من دون تحويلها إلى شر مطلق. الأداء هنا يعتمد على الثقل والحضور، أكثر من الانفعال، ما يجعل الشخصية أكثر إزعاجًا وواقعية.
في المقابل، تشكّل شخصية “عويمر” إحدى أكثر الشخصيات تعقيدًا في العرض، حيث يتحول الاضطراب النفسي إلى مرآة لخلل أعمق في المجتمع. أداء عبدالله التركي لهذه الشخصية يقوم على الهشاشة والصمت والارتباك الداخلي، ما يمنح الدور بعدًا إنسانيًا مؤثرًا، ويبعده عن الصورة النمطية للمجنون في المسرح.
أما شخصية “أم سلمان”، التي أدّتها الفنانة ناهد، فتمثل الضمير الأخلاقي في العمل، من دون أن تتحول إلى صوت خطابي. قوتها تنبع من هدوئها، ومن ثباتها في مواجهة الظلم، وهو ما يضيف بعدًا مهمًا لصورة المرأة في المسرح الاجتماعي، بعيدًا عن التبسيط أو التهميش.
الموسيقى والأغاني في “الصرام” ليست عنصرًا مضافًا، بل جزء من النسيج الدرامي. إعادة توظيف الأغاني التراثية يمنح العرض بعدًا وجدانيًا، ويعزز الإحساس بالمكان والذاكرة، خصوصًا حين تُستخدم الموسيقى كجسر بين المشاهد، أو كتعليق غير مباشر على الحدث.
رغم كل هذه العناصر الإيجابية، يمكن الإشارة إلى أن بعض المشاهد كانت تحتمل تكثيفًا أكبر في الإيقاع، خصوصًا في المنتصف، حيث يميل العرض إلى التأمل أكثر من الدفع الدرامي. إلا أن هذا الخيار قد يُقرأ أيضًا بوصفه جزءًا من الرؤية العامة للعمل، التي تفضّل التمهّل على التسارع.
أخيرًا، تؤكد مسرحية “الصرام” أن المسرح المحلي قادر على تقديم أعمال جادة، متجذرة في الهوية، ومنفتحة في الوقت ذاته على الأسئلة الإنسانية الكبرى. هو عرض لا يكتفي بسرد حكاية، بل يخلق حالة، ويدعو المتلقي إلى التفكير في العلاقة بين الإنسان وأرضه، وبين الماضي والحاضر، في تجربة مسرحية تحترم عقل الجمهور وتراهن على وعيه.




