لوحة من أشهر فنون القرن الـ20 وأقوى اللوحات التي رسمت عن فظائع الحروب، خلد عبرها الفنان الإسباني بابلو بيكاسو حدثاً غير مسبوق في عصره لأولى عمليات القصف الجوي في التاريخ على أهداف مدنية من نساء وأطفال، استطاع بيكاسو أن ينقل خلالها مشاعر الضحايا وفوضى الأجساد تحت النيران في تكوين يختلط فيه الحزن والغضب لتتحول لوحة غرنيكا إلى بيان سياسي قوي ضد الحرب ووحشيتها وتبشر بعصر حروب جديدة ومرعبة.

هجوم وحشي في الـ26 من أبريل (نيسان) عام 1937، وخلال الحرب الأهلية الإسبانية، كانت مدينة غرنيكا تمثل نقطة استراتيجية للجمهوريين ومركز اتصال لقواتهم خلف خطوط القتال الأمامية. وفي ذلك الصباح كان سكان المدينة يستعدون ليومهم المعتاد مع انعقاد السوق الأسبوعية، حيث يتوافد الأهالي والفلاحون من القرى المجاورة لبيع وشراء حاجاتهم، من دون أي توقع بأن هذا اليوم سيتحول إلى واحدة من أكثر المآسي دموية في تاريخ الحروب الحديثة.

في ساعات الظهيرة، تعرضت غرنيكا لقصف جوي نفذته القوات الإسبانية الموالية للجنرال فرانشيسكو فرانكو، بمساندة طائرات ألمانية وإيطالية، واستمر الهجوم نحو ثلاث ساعات متواصلة، ألقيت خلالها قرابة 40 طناً من القنابل المتفجرة والحارقة، مما أدى إلى احتراق نحو 70 في المئة من المدينة.

 ومع فشل جهود فرق الإطفاء في السيطرة على الحرائق، تحولت غرنيكا من بلدة آمنة إلى أنقاض ورماد، فيما غطت شوارعها جثث المدنيين، بينهم نساء وأطفال.

تفاصيل اللوحة بعد تداول خبر الهجوم على غرنيكا، طلبت الجمهورية الإسبانية من الفنان بابلو بيكاسو تنفيذ عمل فني يزين الجناح الإسباني في المعرض الدولي في باريس. لم يتردد بيكاسو، وشرع في إنجاز لوحة زيتية جدارية خلال أقل من ثلاثة أسابيع، مستخدماً تدرجات صارمة من الأسود والأبيض والرمادي، في اختيار لوني عكس هول الصدمة وقسوة الحدث.

تتوسط اللوحة صورة حصان مطعون يصرخ من الألم، يتمدد تحته جندي يحمل سيفاً بيد مبتورة، بينما يقف في أعلى اليسار ثور بعيون جامدة. ويجمع نقاد الفن على أن الحضور النسائي يشكل جوهر العمل، من أم تصرخ حزناً على طفلها الميت، إلى امرأة تلتهمها النيران، وأخرى تحاول الخروج حاملة مصباحاً صغيراً، في مشهد تتقاطع فيه المعاناة الفردية مع الرعب الجماعي.

 

ويرجح أن بيكاسو استخدم ورق الجرائد في تنفيذ بعض تفاصيل اللوحة، متأثراً بما قرأه عن القصف في صحيفة “التايمز”، ليحول الخبر الصحافي إلى واحدة من أشهر الأعمال الفنية المناهضة للحرب في التاريخ الحديث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لست مصوراً فوتوغرافياً

لم يكن بابلو بيكاسو من الفنانين الذين يندفعون لرسم أي حدث عابر، بل كان يتعامل مع موضوعاته بوعي عميق، متأنياً في اختيارها والغوص في دلالاتها، لذلك لم يشأ أن يصور الحرب بصورة مباشرة، مؤكداً موقفه بقوله: “إنني لست من ذلك النمط من الفنانين الذين يهرعون، مثل أي مصور فوتوغرافي”. ومع ذلك، خرجت لوحة غرنيكا كعمل فني بالغ التأثير، تجاوز سياقه التاريخي المباشر، ليطرح أسئلة كونية حول المعاناة الإنسانية والطبيعة العنيفة للبشر.

بعد إنجاز اللوحة قدمها بيكاسو إلى متحف نيويورك للفن الحديث، مشترطاً عدم إعادتها إلى إسبانيا قبل تحقق الديمقراطية في البلاد، وبقيت اللوحة في نيويورك لعقود، قبل أن تعاد عام 1981، بعد نهاية حقبة الديكتاتورية، لتستقر أخيراً في متحف رينا صوفيا في مدريد، حيث تعرض اليوم بوصفها واحدة من أكثر الأعمال الفنية شهرة وتأثيراً في القرن الـ20.

ماذا قالوا عنها؟

أثارت لوحة غرنيكا منذ عرضها الأول نقاشاً واسعاً تجاوز حدود الفن إلى السياسة والفكر الإنساني.

وقد لخص بابلو بيكاسو بنفسه موقع العمل من الصراع حين قال إن “الفن ليس لتزيين الشقق، بل هو سلاح هجومي ودفاعي في مواجهة العدو”، مؤكداً أن اللوحة لم تكن زينة فنية بقدر ما كانت موقفاً أخلاقياً. هذا الفهم عززه رفضه الصريح للتوثيق المباشر، إذ قال: “أنا لست من ذلك النوع من الفنانين الذين يهرعون مثل المصورين الفوتوغرافيين لتسجيل الأحداث”، مفضلاً الرمز والتجريد على إعادة إنتاج مشاهد الحرب.

أما الدلالة السياسية للوحة فقد تجلت في عبارته الشهيرة عندما سأله ضابط ألماني عن غرنيكا: “هل أنت من فعل هذا؟” فأجاب: “لا، أنتم من فعلتم”.

في المقابل، رأى مؤرخ الفن البريطاني هربرت ريد أن غرنيكا “ليست لوحة عن حرب بعينها، بل عن فكرة الحرب نفسها”، في إشارة إلى بعدها الكوني.

وذهب الفنان الإسباني خوان ميرو أبعد من ذلك حين قال إن “بيكاسو في غرنيكا لم يرسم المأساة، بل جعلها تصرخ”، وهو توصيف رسخ مكانة اللوحة بوصفها واحدة من أقوى الإدانات البصرية للعنف في القرن الـ20.