بمناسبة مرور ستين عاماً على صدور المرسومين المجمعيين “في التنشئة الكهنوتية”، و”حياة الكهنة وخدمتهم”، صَدَرَت الرسالة الرسولية بعنوان ‘أمانةٌ تُولِّدُ مستقبلاً’، التي تعيد إرساء الركائز الجوهرية للدعوة الكهنوتية. تُسلط الرسالة الضوء على محورية التنشئة الدائمة التي غدت ضرورةً ملحّة في ظل أزمة الثقة التي تواجهها الكنيسة جرّاء الإساءات، وأمام الواقع الأليم المتمثل في ترك الخدمة الكهنوتية. كما تُجدد الرسالة التأكيد على قيم التواضع، والأخوّة، والتعاون مع الشمامسة والعلمانيين.

تأتي الرسالة الرسولية “أمانةٌ تولِّد مستقبلاً”، التي أصدرها البابا لاوُن الرابع عشر بمناسبة الذكرى الستين للمرسومين المجمعيين “في التنشئة الكهنوتية”، “Optatam totius” و”حياة الكهنة وخدمتهم”، “Presbyterorum Ordinis” لتموضع نفسها بوعيٍ تام في قلب إرث المجمع الفاتيكاني الثاني، ولتعيد إطلاق آنيته كمسيرةٍ لا تزال آفاقها مفتوحة. ويوضح قداسة البابا منذ البداية أن هذا النص ليس مجرد احتفاء رسمي أو استحضار مُفعم بالحنين للماضي، بل هو فعلٌ كنسي حيّ، يُسائل الحاضر ويوجِّه مستقبل الخدمة الكهنوتية، ومعها مستقبل الكنيسة جمعاء.

إن هذين المرسومين، اللذين انبثقا من نَفَسٍ مجمعي واحد، يُقدَّمان كَنَصَّين متكاملين لا ينفصمان؛ أحدهما كُرِّس للتنشئة الكهنوتية، والآخر لحياة الكهنة وخدمتهم. وكلاهما يجد جذوره في رؤيةٍ للكنيسة كـ “شعب الله” الذي يسير في التاريخ، والمدعوة لكي تكون علامة وأداة وحدة لجميع الشعوب. لذا، يشدد البابا على أن تجديد الكنيسة بأسرها يعتمد، في جانب كبير منه، على خدمة كهنوتية يحييها روح المسيح بصدق وأمانة. ومن هنا تدعو الرسالة إلى صون هذين النصين كذاكرة حية، تُقرأ وتُدرَّس وتُستبطَن، لا سيما في الإكليريكيات الإكليريكية ومسارات التنشئة، لكي تستمر في توليد الخصوبة.

أما الخيط الناظم للوثيقة بأسرها فهو “الأمانة”، لا بمعناها كحفظٍ جامد أو تكرارٍ آلي، وإنما كنعمة إلهية ومسيرة ارتداد يومي. فالأمانة الحقيقية لا توصد أبواب المستقبل، بل تولده وتطلقه، لأنها تولد من الرابط الحيِّ بين المسيح وكنيسته. وفي هذا السياق، يعرب البابا عن عميق امتنانه للكهنة في شتى بقاع الأرض، الذين يبذلون حياتهم في الخدمة اليومية، غالباً في الصمت والعناء: فيحتفلون بالإفخارستيا، ويكرزون بالكلمة، ويصالحون النفوس، ويبنون الشركة، ويعتنون بشكل خاص بالفقراء والمتألمين.

ثم يركِّز التأمُّل على أصل الدعوة الكهنوتية، التي تولد دوماً من لقاء شخصي مع المسيح. فقبل أي مشروع أو التزام أو خدمة، يتردد صدى صوت الرب الذي يدعو: “تعال اتبعني”. إنَّ الدعوة ليست قسراً أبداً، بل هي عرضٌ حر مفعم بالمحبة، يقبله المرء حين يعترف أن يسوع هو محور حياته. وتشتد أواصر الأمانة لهذه الدعوة عبر الزمن من خلال الذاكرة الحية للقاء الأول، والتمييز، والمرافقة الروحيّة، والاتحاد الداخلي مع المسيح، وهو أمر لا غنى عنه للحياة الرسولية.

ومن هذا المنطلق، يبرز الإلحاح على “التنشئة الدائمة”، التي أشار إليها مرسوم “التنشئة الكهنوتية” بوضوح. فالتنشئة لا تنتهي بانتهاء سنوات الإكليريكيّة، بل يجب أن ترافق الكاهن طوال حياته كديناميكيَّة تجددٍ إنساني وروحي وفكري ورعوي. وفي هذا الإطار، يؤكد البابا على ضرورة وجود تنشئة متكاملة تواجه بوضوح وتواضع الجراح الناجمة عن الإساءات، وتُعزِّز نضجاً عاطفياً حقيقياً وحياة روحية ثابتة. كذلك تتمُّ قراءة أزمة الذين يهجرون الخدمة الكهنوتية لا من منظور قانوني فحسب، بل كدعوة لمزيد من العناية بالأشخاص وقصصهم ودوافع دعواتهم العميقة. ولعل أبرز ما جاء في الرسالة هو التركيز على النضج الإنساني والعاطفي؛ إذ على الإكليريكيّة أن تكون “مدرسةً للمشاعر”، لا يُستبعد فيها شيء من الشخص، بل يُقبل كل شيء ويُحوّل في ضوء منطق الإنجيل القائم على بذل الذات. فوحدهم الكهنة المتصالحون مع ذواتهم، القادرون على بناء علاقات حقيقية تجمع بين البعدين الإنساني والروحي، يمكنهم أن يعيشوا التبتل بفرح ومصداقية وأن يُصبحوا “جسوراً” حقيقية نحو المسيح.

ركنٌ أساسي آخر في الرسالة هو “الأخوَّة الكهنوتية”، المتجذرة في المعمودية والمؤسسة سرياً في السيامة. فالكهنة هم إخوة فيما بينهم ومع شعب الله كافة؛ ولا يمكن عيش أي خدمة في عزلة أو في مرجعيّة ذاتيّة. لأنَّ هذه الأخوة ليست هدفاً اختيارياً، بل هي هبة تسبقنا وتطلب منا أن نجيب عليها من خلال خيارات ملموسة: كالمشاركة، والمؤازرة المتبادلة، والانتباه إلى الإخوة الوحيدين أو المرضى أو المسنين، وإرساء العدالة في ظروف العيش والضمان الاجتماعي. وفي عالم تمزقه الانقسامات، تصبح الشركة بين الكهنة شهادة نبوية للوحدة الثالوثية التي تولد منها الكنيسة.

واستكمالاً لنهج المجمع الفاتيكاني الثاني والمسيرة الكنسية الراهنة، يكرِّس البابا فسحة واسعة لـ “السينودسية”، باعتبارها بُعداً تكوينياً للكنيسة وفرصة كبيرة لمستقبل الخدمة الكهنوتية. فالكهنة مدعوون لعيش علاقات متجددة مع الأسقف، ومع سائر الكهنة والشمامسة والمؤمنين العلمانيين، مثمّنين مواهبهم وكفاءاتهم. إن السينودسية لا تذيب الهوية الكهنوتية، بل تنقيها من جميع أشكال السلطة المفهومة كسيطرة، لتوجهها نحو قيادة قوامها الخدمة والعمل الجماعي والمشاركة. ومن هذه الرؤية ينبثق فهمًا رسوليًّا عميقًا للكهنوت؛ فهويّة الكاهن تتبلور في كونه “من أجل” الآخرين. فمن يبحث عن ذاته يخاطر في أن يجعل المسحة التي نالها عقيمة، أما من يخرج من ذاته فيكتشف هويته في العطاء. ويحذر البابا من تجربتين متناقضتين في عصرنا: “النشاط” المفرط الذي يقيس القيمة بالنتائج، والانغلاق على الذات الاستسلامي الذي يهرب من تحديات الرسالة. إن السبيل الحقيقي هو “المحبة الرعوية”، المبدأ الموحِّد لحياة الكاهن، الذي يسمح التمييز بين ما هو جوهري وثانوي، وعيش توازن فصحي بين التأمل والعمل.

وفي هذا الأفق، يُدعى أيضاً استخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي إلى تمييز إنجيلي: فكل شيء يجب أن يُسخَّر ويوجَّه لخدمة البشارة لا للاحتفاء بالذات. فالكاهن مدعو “ليتوارى لكي يبقى المسيح”، ويسمح للسر الذي يحتفل به أن يتجلى في كل تصرُّف، لا سيما في سر الإفخارستيا. وبالنظر إلى المستقبل، يبدي البابا لاوُن الرابع عشر رغبته في “عنصرة” مُتجدِّدة للدعوات، تولِّد دعوات قدِّيسة ومثابرة. وإلى جانب الصلاة، يدعو إلى مراجعة القدرة التوليدية للممارسات الرعوية، وتقديم مسارات للشباب مُتطلِّبة ومُحرِّرة في آن معاً، مذكراً بأنه على منظور الدعوة أن يمُرَّ عبر العمل الرعوي برمته، لا سيما عبر رعوية الشباب والعائلات. فبدون الاهتمام بالدعوات، لا مستقبل للكنيسة.

ويختتم البابا الرسالة بنداء قوي للرجاء والوحدة، موكلاً الإكليريكيين والشمامسة والكهنة إلى شفاعة العذراء مريم سيّدة الحبل بلا دنس، والقديس يوحنا ماري فياني كاهن آرس. ويُلخَّص الكهنوت في ختام النص بصورة منيرة وحاسمة: إنه “محبّة قلب يسوع”؛ محبّة إفخارستية، كاملة وأمينة، قادرة على تبديد السأم والوحدة والإحباط، وعلى توليد مستقبل للكنيسة وللعالم.