عاش لبنان، على مدى خمسة وثلاثين عامًا، في حالة “مساكنة قسرية” مع “حزب الله”، فرضها في بداياتها احتلال النظام الأسدي للبنان، واستمرت بعده بفعل الأمر الواقع وعجز الدولة عن نزع سلاحه، وفي ظل غض نظر دولي في المرحلتين. فقد كانت الأولوية، دوليًا، لما سُمي “استقرار لبنان”، ولو على حساب سيادته واستقلاله. وحتى إسرائيل، التي كانت في حالة اشتباك عسكري مباشر مع “الحزب”، ذهبت إلى تنظيم المساكنة معه عبر تفاهم نيسان 1996، بما شكّل اعترافًا عمليًا بدوره العسكري ضمن قواعد اشتباك مضبوطة.
واستمرت المساكنة بين “حزب الله” وإسرائيل بعد خروجها من لبنان عام 2000، على الرغم من أن إسرائيل كانت قادرة، بكل بساطة، على تحميل الدولة اللبنانية والنظام الأسدي آنذاك مسؤولية أي طلقة تُطلق من الأراضي اللبنانية، وتحذيرهما بأن ردها سيكون ضدهما. ولو اعتمدت هذا الخيار، لكان الحزب قُمِع وجمِّدت عملياته من قصر المهاجرين.
وعادت إسرائيل وكرّرت الخطأ نفسه بعد حرب تموز 2006، حين سلمت مجددًا بمساكنة مع “الحزب”، رغم أن القرار 1701 نص بوضوح على نزع سلاحه في كل لبنان. وهذا شكل أحد أبرز إخفاقاتها في إدارة المواجهة مع “الحزب”.
ومع خروج جيش النظام الأسدي من لبنان عام 2005، انتقلت مساكنة اللبنانيين من احتلال مباشر إلى هيمنة الذراع الإيرانية. ورغم الدعم الدولي لانتفاضة الاستقلال، لم تكن أي من الدول المعنية في وارد تخيير “حزب الله” بين تسليم سلاحه أو استهدافه عسكريًا. كما إن دولة 14 آذار، التي كانت مفاصلها مكبلة بسلاح “الحزب”، لم تستطع إنهاء مشروعه المسلّح، فدخل لبنان مرحلة جديدة من فصول إدارة الأزمة.
وفي الوقت الذي عجزت فيه القوى السيادية عن إنهاء المساكنة بين الدولة والدويلة، وبين السلاح الشرعي والسلاح غير الشرعي، كانت الدويلة تتمدّد تدريجيا لوضع يدها الكاملة على الدولة. في المقابل، تأقلمت إسرائيل مع هذه المساكنة، فتحولت جبهة الجنوب إلى جبهة شبيهة بالجولان: باردة عسكريًا وساخنة خطابيًا، ورسمّت بحريًا، وكان بدأ الكلام عن الترسيم البري.
ولولا “طوفان الأقصى” وما استتبعه “حزب الله” من “حرب إسناد”، لكانت المساكنة مستمرة حتى اليوم، ولكان لبنان الخاسر الأكبر فيها. إلا أن إسرائيل قرّرت، خلافًا لمسارها منذ عام 1996، إنهاء هذه المساكنة، عبر إنهاء الجناح العسكري لـ “الحزب”، على طريقة إخراج أبو عمار من بيروت عام 1982.
لكن “الحزب” لم يستوعب بعد التحوّل في النهج الإسرائيلي. فهو لا يزال يتعامل مع ما يجري على أنه ظرفي وموقت، وأن تل أبيب ستعود إلى قواعد الاشتباك السابقة. وهذا الوهم يعرِّضه لخطر السحق، تمامًا كما حصل مع “منظمة التحرير” التي لم تدرك في حينه أن إسرائيل اتخذت قرار اجتياح لبنان لإخراجها منه.
لم تتوقع إسرائيل طبعًا أن يحل “حزب الله” مكان “منظمة التحرير”، لكنها رأت في الاجتياح آنذاك الحلّ الوحيد لتأمين الاستقرار على حدودها الشمالية. وهي اليوم لن تكتفي بجنوب الليطاني، خلافًا لما يأمله “الحزب”، إذ لن تسمح له بإعادة تنظيم نفسه، خصوصًا مع انقطاع حدوده الجغرافية مع إيران. لذلك، قرّرت استنساخ سيناريو عام 1982 بأسلوب عسكري مختلف، ولن تُنهي الحرب قبل أن يعلن “الحزب” انتهاء مشروعه المسلّح.
ولن يحلّ هذه المرة أي تنظيم مكان “حزب الله”، فهذا الزمن، الذي بدأ دورته الرديئة بعد حرب عام 1967، انتهى إلى غير الرجعة: لا اتحاد سوفياتيًا، ولا نظام أسديًا، ولا إمبراطورية إيرانية قادرة على التمدُّد، ولا قابلية لبنانية لإبقاء لبنان وسط الحروب والفوضى، والأهم من كل ذلك تصميم إسرائيلي على إنهاء ما بدأته عسكريًا، وتصميم دولي على تغطية هذا المسار وتوفير المقومات للبنان من أجل قيام دولة فعلية.
وعلى الرغم من الضعف العسكري والجغرافي والمالي الذي يعانيه “حزب الله” اليوم، وعلى الرغم من تحرُّر الدولة نسبيًا من قبضته، لا تزال السلطة مترددة في إنهاء المساكنة مع من يمنع قيام دولة فعلية. فيما المطلوب منها أن تنتهز هذه الفرصة التاريخية لطي صفحة نصف قرن من تغييب الدولة وتحويل لبنان إلى ساحة.
المهم في كل هذا المشهد أن المساكنة مع “حزب الله” انتهت إلى غير رجعة. ولو لم تنهِ إسرائيل هذه المساكنة، لما كان لبنان قادرًا على إنهائها، ولا المجتمع الدولي مستعدًا لتحمُّل كلفة التخلُّص منها. والمهم أن هذه المساكنة أصبحت مرفوضة لبنانيًا وإسرائيليًا وعربيًا ودوليًا. وهذا يعني حقيقة واحدة لا يمكن القفز فوقها وهي أن إنهاء المساكنة يُنهي الدور العسكري لـ “الحزب”، وإنهاء هذا الدور يعيد الفعالية إلى دور الدولة، ويطوي صفحة لبنان الساحة والحروب والفوضى.
فلا دولة فعلية في لبنان، ولا استقرار ولا ازدهار، في ظل المساكنة التي كانت قائمة بين الدولة اللبنانية و “حزب الله”. ولا أمل للبنان بإنهاء هذه المساكنة لولا أن إسرائيل، لحساباتها ومصالحها، قرّرت إنهاءها. وشاءت الصدف أن إسرائيل نفسها كانت قد أنهت المساكنة بين الدولة اللبنانية و “منظمة التحرير الفلسطينية”، كما ساهمت في إنهاء المساكنة بين الدولة والهيمنة الأسدية، إذ لولا انسحابها الأحادي من لبنان ومن تلقاء نفسها، لما خرج جيش الأسد عام 2005.
