لأسباب خاصة، فاتنى هذا العام حضور مهرجان «قرطاج»، والذى توجت فيه السينما المصرية لأول مرة بجائزتى «التانيت» الذهبى فى مسابقتى الأفلام الطويلة والقصيرة. رصيدنا من الجوائز فى هذا المهرجان محدود جدا. كنت مشاركا فى لجنة تحكيم المسابقة الطويلة ٢٠٢١ التى حظى فيها الفيلم المصرى «ريش» بأربع جوائز «تانيت» ذهبى لأول مرة فى تاريخ المهرجان، أفضل فيلم وأفضل عمل أول وسيناريو وتمثيل. تحرص إدارة المهرجان، منذ تعاقبها منذ الدورة الأولى ١٩٦٦، على ألا تتدخل فى توجيه اختيارات لجان التحكيم.

لقد شاهدت فى مهرجان (البحر الأحمر) فيلم (قصص) لأبوبكر شوقى وتوقعت له الجائزة الذهبية، وهو ما تحقق فى (قرطاج)، الذى افتتح بعد ٢٤ ساعة من إسدال ستار (البحر الأحمر).

قبل ساعات، شاهدت الفيلم المصرى القصير (٢٣B مشاكل داخلية)، إخراج محمد طاهر، أعمق وأصعب القوالب الدرامية تلك التى تتكئ على اللمحة الثاقبة والومضة الساحرة. القسط الأكبر من تلك النوعيات تُشعرك بأن صُناعها وكأنهم يكثفون فيلما طويلا فى عدة دقائق، وبهذا يخسرون ضربة البداية. الفيلم القصير فى بنائه أقرب للقصص القصيرة لـ«تشيكوف» و«يوسف إدريس».

المخرج محمد طاهر مدرك تمامًا كل التفاصيل، رغم أن رصيده محدود فى العمل كمساعد مخرج.. يذكرنى بالرائع داود عبدالسيد.

اختيار فكرة الفيلم والعنوان الرقمى الذى أُضيف له تعبير (مشاكل داخلية) يؤكد أن المخرج أمسك ببداية الخيط.. أيضا تسكين الممثلين حتى المحترفين منهم مثل محمد ممدوح فى دور تبرق فيه موهبته، الحوار الداخلى يشكل ٩٠ فى المائة من مساحة الدور. وأعتقد أننا عندما نضع (سى فى) لممدوح نظلم الحقيقة، لو لم نضع خطا تحت هذا الدور المركب.

يكشف المؤلف هيثم دبور، بإيحاء جميل، عن الكثير مما يجرى فى المجتمع، من سوء الظن والتقدير، والقصد، ابنة مراهقة لها قطعا متطلبات خاصة، فى ارتداء بعض الملابس الداخلية، فى لغة التواصل داخل المجتمع نعجز فى كثير من الأحيان عن إيصال أفكارنا، الخط المستقيم هو أقصر الطرق والمسافات بين أى نقطتين، بينما فى حياتنا من الممكن أن طريقا يستغرق أمتارا نكتشف أننا حتى نقطعه أنفقنا أميالا. الفيلم يتحدث عن المكاشفة التى فقدناها بسبب تربية خاطئة نشأنا عليها جميعا، نطلق عليها خطأ حياء، بينما هى فى عمقها تكشف عن رياء المجتمع.

البداية من جارة ممدوح (هنا شيحة) التى لم تستطع أن تخبره بحاجة ابنته إلى ارتداء غطاء للثدى (سوتيان)، البائع أحمد داش الذى تصور أن الأستاذ الوقور على علاقة بامرأة، رفض الرجل ألوانا محددة لاعتقاده أنها تستخدم فقط للإثارة، وعندما يبحث عن غطاء يضع فيه الهدية تعتبره العاملة فى المحل (جهاد حسام الدين) فسقًا لن تشارك أبدا فى ارتكابه.

تربينا على الخوف والمواربة. لم نستطع أن نكمل شيئا إلا ونحن فى حالة خجل، حتى يصل هذا الشريط الذى لم يتجاوز ١٩ دقيقة إلى تلك النهاية العبقرية التى سأحتفظ بها.

الفيلم به بهجة وشجن بقدر ما به من حياء وخجل، به جدية بقدر ما يملك من مرح، العناصر الفنية كلها بلا استثناء تعاملت بقدر ملحوظ من الفهم والعمق. أتوقف أمام موسيقى أحمد مصطفى زكى، وتصوير مصطفى فهمى، ومونتاج باهر رشيد، وصوت أحمد صبور ويوسف الميهى.

هل تنبهت أو استيقظت قنوات التليفزيون على هذا الحدث الذى طوَّق أعناقنا قبل نهاية العام، بينما نحن غرقى فى معركة صفرية اسمها (السِّت) تهتك فيها الأعراض الوطنية والشخصية وكأنها (قزقزة اللب)؟!.