تمارس واشنطن استراتيجية العصا الغليظة والبلطجة العسكرية المباشرة، بينما يؤدي العقل الاستعماري في لندن دوراً أشد خطورة في العمق اللبناني. إذ يهندس سياسة السم البارد القائمة على تفكيك بنى القوة الوطنية عبر منظومة تدمج التغلغل الاستخباري، الاحتجاز التقني، وتوفير الملاذات القانونية للجناة.

تنطلق هذه السياسة من قبرص؛ حيث تحولت قاعدة RAF Akrotiri ومحطة Ayios Nikolaos إلى مركزي ارتكاز في منظومة العيون الخمسة. أتاحت هذه التمركزات فرض وصاية رقمية واسعة على حركة البيانات والاتصالات عبر اعتراض الكابلات البحرية والتحكم بعقد الاتصال، ما جعل الفضاء السيبراني اللبناني مكشوفاً بالكامل. وتولت طائرات الاستطلاع من طراز Shadow R1 التابعة للسرب رقم 14، والمتموضعة عملياتياً في قاعدة أكروتيري القبرصية، مهمة تغذية بنك أهداف العدو بمعطيات استخبارية دقيقة. هذا الدور أقر به وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي عام 2025 بصيغة مراوغة، نفى خلالها المساعدة في إدارة العمليات القتالية الفعلية وتوجيهها، رغماً عن الوقائع التي تثبت تقديم إسناد معلوماتي فتاك.

مهد هذا الاختراق الرقمي لاستباحة سيادية أوسع تزامنت مع انفجار مرفأ بيروت. ففي الوقت الذي كانت فيه العاصمة تحت آثار الكارثة، فرض جدار كثيف من السرية حول شركة Savaro Ltd. ورغم صدور حكم المحكمة العليا في لندن في الأول من شباط 2023 بمسؤولية الشركة، حجب القضاء البريطاني، بإدارة المحامي ريتشارد سليد، هوية المالك الحقيقي. ويرتبط هذا الإخفاء بشبكة مصالح تتقاطع عناوينها في لندن 13 John Prince’s Street مع أسماء مرتبطة بملفات طاقوية، منها جورج حصواني وشركة هيسكو. وبذلك، خضع ملف النيترات لحماية قانونية غربية منعت كشف هوية الممولين والناقلين الحقيقيين.

تكتسب فرضية مسار التعمية أبعاداً جرمية عند مقاطعة التغطية القانونية في لندن بالوقائع الميدانية، إذ يبرز اغتيال المصور جو بجاني كعملية إعدام ممنهجة للذاكرة الرقمية. وتعد تصفية الرجل الذي امتلك، بحكم عمله الحساس كمصور معتمد لدى الجيش اللبناني، أرشيفاً بصرياً للمرفأ، إجراءً استخبارياً شمل سرقة هواتفه وكاميراته بهدف القضاء على أي دليل مادي يفضح الحملة الإعلامية الممنهجة التي انطلقت منذ اللحظات الأولى للانفجار، وأشارت بأصابع الاتهام نحو المقاومة في محاولة استباقية لصرف الأنظار عن الخيوط الحقيقية والفاعل المراد إخفاؤه. وهو المسار الذي تولى أفيخاي أدرعي تثبيته لاحقاً لترسيخ الرواية المضللة.

انتقلت لندن لاحقاً إلى مرحلة الاستقرار المشروط عبر مشاريع التفكيك الناعم بإشراف المبعوث جوناثان باول، مهندس اتفاق الجمعة العظيمة الذي أفضى إلى نزع سلاح المقاومة في إيرلندا الشمالية وتحويل صراعها إلى مسار سياسي مدجن. وتزامن هذا المسار مع زرع 70 برج مراقبة عبر صندوق UKISF، نصبت أقفالها التقنية بدقة فوق نقاط جغرافية تتطابق مع أحواض الترسيب النفطية في البقاع والجرود. ويكشف التقاطع الميداني بين إحداثيات هذه الأبراج وبين خرائط المسح الزلزالي التي تفاخر شركة Spectrum Geo Ltd البريطانية بامتلاكها، أن المنظومة المزروعة تتجاوز الوظيفة الحدودية التقليدية. فهي منظومة حراسة استخبارية مسبقة، وضعت يدها تقنياً فوق المكامن الباطنية بانتظار لحظة الإخضاع السياسي. يعيد هذا المشهد إنتاج مسار تاريخي بدأ بإغلاق بئر جبل تربل عام 1947، وبئر يحمر عام 1953 بذريعة الجفاف.

في المحصلة تظهر بريطانيا اليوم كفاعل يحمي المتورطين بغطاء قانوني، ويصادر المستقبل بالسيطرة التقنية، ويراقب المجال اللبناني من الخارج والداخل. إن مواجهة هذا المخطط تبدأ بتفكيك عقيدة السم البارد، ورفض تحويل السيادة إلى ملف تقني مدار خارجياً. فقراءة الصراع خارج معادلات الاستعمار البنيوي ومنظومات الاستخبارات، تغفل جوهر المسألة: مشروع يستهدف اغتيال لبنان كوطن، وتثبيته كمنشأة أمنية، بانتظار لحظة نهب موارده المدفونة.