أُنشئت لجنة “الميكانيزم” عقب إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني / نوفمبر 2024 بوصفها آلية تنسيق تقنية، تهدف نظريًا، إلى خفض التصعيد ومتابعة تنفيذ الترتيبات الأمنية على الحدود الجنوبية للبنان.

غير أنّ الغموض الذي شاب أساسها القانوني، وحدود صلاحياتها، وطبيعة تركيبها، سرعان ما حوّلها من إطار تنسيقي محدود إلى عنصر إشكالي في البنية السيادية اللبنانية، ولا سيما مع تصاعد الانتقادات حول دورها في تغطية الانتهاكات الإسرائيلية اليومية، وممارسة ضغوط مباشرة وغير مباشرة على الدولة اللبنانية والمؤسسة العسكرية، وصولًا إلى الدفع باتجاه إجراءات تمسّ بحقوق المدنيين، وعلى رأسها اقتحام المنازل وتفتيشها خارج الضوابط الدستورية والقانونية.

يسعى هذا النص إلى تقديم تحليل قانوني–سياسي متكامل للوضعية القانونية للجنة الميكانيزم، من خلال تفكيك أساسها الناظم، وتحديد مهامها المفترضة، ومقارنة ذلك بممارساتها الفعلية، ثم تقييم مدى قانونية هذه الممارسات في ضوء الدستور اللبناني والقوانين النافذة، والقانون الدولي، وصولًا إلى اقتراح آليات عملية لمواجهة الخروقات وحماية السيادة والحقوق الأساسية.

أولًا: الأساس القانوني للجنة الميكانيزم

1)غياب الأساس الدستوري والتشريعي الداخلي

لا يستند إنشاء لجنة الميكانيزم إلى:

_نص دستوري لبناني،

_أو قانون صادر عن مجلس النواب،

_أو مرسوم حكومي يحدّد صراحة تشكيلها وصلاحياتها.

وعليه، فإن وجودها القانوني داخل النظام الدستوري اللبناني هو وجود وظيفي–سياسي لا يرقى إلى مرتبة الهيئة الرسمية أو الإدارية ذات الصلاحيات المحددة. ويُخضعها ذلك لمبدأ أساسي في القانون العام اللبناني هو مبدأ المشروعية، الذي يقضي بعدم جواز ممارسة أي سلطة أو وظيفة عامة دون سند قانوني صريح.

2) طبيعتها كآلية تنسيق غير ملزمة

في أفضل توصيف قانوني، يمكن اعتبار لجنة الميكانيزم:

_إطارًا تنسيقيًا تقنيًا غير ملزم،

_يفتقر إلى الشخصية المعنوية العامة،

_ولا يتمتع بأي سلطة تقريرية أو تنفيذية داخل الأراضي اللبنانية.

ولا يمكن، بالتالي، إدراجها ضمن فئة “القوات الدولية” بالمعنى القانوني، ولا ضمن بعثات الأمم المتحدة المخوّلة بموجب قرارات صادرة عن مجلس الأمن (كاليونيفيل)، ما ينفي عنها أي صلاحيات ميدانية مباشرة.

ثانيًا: المهام المفترضة للجنة وفق منطق وقف إطلاق النار(27-11-2024)

نظريًا، تنحصر مهام أي آلية متابعة لوقف إطلاق النار في:

1)الرصد والتبليغ بشأن الخروقات من جميع الأطراف.

2)تسهيل قنوات الاتصال لتجنّب التصعيد غير المقصود.

3)رفع تقارير تقنية إلى الجهات السياسية المعنية دون طابع إلزامي.

ولا تشمل هذه المهام، بأي حال:

_الإشراف على عمليات أمنية داخلية،

_أو إعطاء توجيهات للجيش اللبناني،

_أو اقتراح أو فرض إجراءات تمسّ بالحريات العامة أو الخاصة.

ثالثًا: تجاوز الدور – من التنسيق إلى التدخل

1) تغطية الانتهاكات الإسرائيلية

أحد أخطر أوجه الخلل يتمثّل في الأداء الانتقائي للجنة، حيث يُلاحظ:

_تجاهل أو تمييع الانتهاكات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية،

_مقابل التركيز المفرط على مطالب وإجراءات موجّهة حصريًا إلى الجانب اللبناني.

هذا السلوك يُفرغ اللجنة من أي ادّعاء بالحياد، ويحوّلها إلى أداة ضغط غير متوازنة، بما يتعارض مع أبسط معايير الوساطة أو الرقابة التقنية.

2)الضغط على الجيش والدولة

تُسجَّل ممارسات متكررة للجنة تتمثّل في:

_ممارسة ضغوط سياسية وأمنية على قيادة الجيش،

_الدفع نحو اقتحام منازل مدنيين وتفتيشها،

_تجاوز القنوات الدستورية والقضائية اللبنانية.

وهنا يبرز الخلل الجوهري: اللجنة لا تملك أي صفة تخوّلها طلب أو فرض تفتيش منازل، لأن هذا الإجراء يخضع حصريًا للقضاء اللبناني، وفقًا للمادة 14 من الدستور وقانون أصول المحاكمات الجزائية.

رابعًا: التقييم القانوني للممارسات

1) انتهاك حرمة المسكن

أي تفتيش يتم:

_بطلب أو توصية من لجنة الميكانيزم،

_دون إذن قضائي لبناني،

يشكّل انتهاكًا صريحًا لحرمة المسكن، ويُعدّ عملًا غير مشروع، تتحمّل مسؤوليته الجهة المنفّذة والجهة الضاغطة على السواء.

2)انتهاك مبدأ السيادة

إقحام لجنة غير لبنانية في إجراءات أمنية داخلية يمسّ جوهر السيادة، ويُخالف:

_مبدأ حصر السلطة بالقوى الدستورية،

_ومبدأ عدم جواز تفويض الاختصاص السيادي لجهات خارجية دون سند قانوني.

3) المسؤولية القانونية

تترتّب على هذه الممارسات:

_مسؤولية إدارية وتأديبية داخلية،

_وإمكانية مساءلة جزائية عند ثبوت تجاوز الصلاحيات أو انتهاك الحقوق،

_فضلًا عن مسؤولية دولية محتملة في حال اعتبار اللجنة شريكة أو متواطئة في انتهاكات حقوق الإنسان.

خامسًا: البعد السياسي والأمني

لا يمكن فصل أداء لجنة الميكانيزم عن السياق السياسي الأوسع، حيث تتحوّل الآليات التقنية في كثير من الأحيان إلى أدوات لإعادة إنتاج ميزان قوى مختلّ، عبر:

_نقل الضغوط من المستوى العسكري إلى المستوى القانوني–الأمني،

_استخدام مفردات “التقنية” و”التنسيق” لتبرير تدخلات سيادية.

ويكمن الخطر في تطبيع هذا الدور، بما يؤدي تدريجيًا إلى إضعاف القرار الوطني المستقل، وتحويل الالتزامات الأمنية إلى مسار أحادي يحمّل لبنان وحده كلفة “التهدئة”.

سادسا: مقتضيات الاجتماع الأخير مع لجنة «الميكانيزم» – الدلالات القانونية والسياسية

انعقد الاجتماع الأخير للجنة “الميكانيزم” في 19 كانون الأول / ديسمبر 2025 في مقر قوات اليونيفيل في الناقورة، بمشاركة ممثلين عن الجيش اللبناني، والولايات المتحدة، وفرنسا، والكيان الإسرائيلي، إضافة إلى حضور أممي عبر اليونيفيل، وترؤس الوفد اللبناني من قبل السفير السابق سيمون كرم بصفته ممثلًا مدنيًا.

وقد شكّل هذا الاجتماع محطة مفصلية من حيث مضمون النقاشات وطبيعة المطالب المطروحة، لا سيما لناحية توسيع نطاق الإجراءات الميدانية داخل الأراضي اللبنانية تحت عنوان “تنفيذ الترتيبات الأمنية” و”منع الخروقات”.

من الناحية القانونية، يكتسب هذا الاجتماع دلالة إشكالية لكونه تجاوز عمليًا حدود التشاور التقني إلى ممارسة ضغوط ذات طابع تنفيذي، تمثّلت في الدفع باتجاه إجراءات تفتيش وتدخلات ميدانية تمسّ مباشرة بحقوق المدنيين وبصلاحيات القضاء اللبناني. ويُسجَّل في هذا السياق أنّ أي خلاصات أو توصيات تصدر عن هذا الاجتماع لا تملك، من حيث المبدأ، أي قوة إلزامية داخل النظام القانوني اللبناني، ما لم تُترجم عبر القنوات الدستورية المختصة، وهو ما لم يحصل.

أما على المستوى السيادي، فإن طبيعة النقاشات المطروحة، ولا سيما التركيز الأحادي على التزامات الجانب اللبناني مقابل تغييب أو تمييع الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، تعكس خللًا بنيويًا في مبدأ الحياد المفترض للجنة. وهذا الخلل لا يقتصر على بعد أخلاقي أو سياسي، بل ينعكس مباشرة على مشروعية دور اللجنة، إذ إن أي آلية تنسيق تفقد توازنها تتحوّل تلقائيًا إلى أداة ضغط، لا إلى إطار احتواء.

ويُضاف إلى ذلك أنّ محاولة ربط الاستقرار أو استمرار وقف إطلاق النار بمدى تجاوب الدولة اللبنانية مع مطالب غير مستندة إلى سند قانوني داخلي، تمثّل مساسًا مباشرًا بمبدأ حصر السلطة بيد المؤسسات الدستورية، وتهديدًا لموقع الجيش اللبناني كقوة سيادية تعمل تحت سقف القانون، لا كجهة منفّذة لإملاءات خارجية.

1) طبيعة الاجتماع وحدوده القانونية

أظهرت مضامين الاجتماع الأخير بين الجانب اللبناني ولجنة الميكانيزم أنّ اللجنة تجاوزت عمليًا منطق “التشاور التقني” إلى ممارسة دور شبه توجيهي، عبر:

_طرح مطالب تنفيذية تتعلق بإجراءات ميدانية داخل الأراضي اللبنانية،

_الضغط باتجاه توسيع نطاق التفتيش ليشمل منازل ومواقع مدنية،

_ربط استمرار “التهدئة” بمدى تجاوب الدولة اللبنانية مع هذه المطالب.

من الناحية القانونية، لا يترتب على أي اجتماع من هذا النوع، أي أثر إلزامي، ولا يُنشئ التزامات جديدة على الدولة اللبنانية، ما لم يُترجم باتفاق رسمي مصادق عليه وفق الأصول الدستورية (مجلس الوزراء – مجلس النواب عند الاقتضاء). وبالتالي، فإن تحويل خلاصات الاجتماع إلى “مرجعية عمل” يشكّل خرقًا لمبدأ تدرّج القواعد القانونية، وتجاوزًا لصلاحيات السلطة التنفيذية نفسها.

2)مضمون الضغوط الممارسة خلال الاجتماع

بحسب ما رشح من معطيات، تركزت الضغوط حول:

_توسيع صلاحيات الجيش في التفتيش خارج إطار الإذن القضائي،

_التساهل في معايير الاشتباه،

_القبول بتقارير تقنية غير قابلة للتدقيق القضائي كمبرّر للإجراءات.

وهذا يطرح إشكالية قانونية خطيرة: التقارير التقنية أو الاستخباراتية، ما لم تخضع لرقابة القضاء اللبناني، لا تملك أي قيمة قانونية داخل النظام الداخلي.

إنّ أي قبول بها يُعدّ: تفويضًا غير مشروع لسلطة التقدير، وتنازلًا ضمنيًا عن الاختصاص القضائي.

سابعا: مستقبل لجنة الميكانيزم – بين الاستمرار الوظيفي والتآكل الشرعي

1)سيناريو الاستمرار الحالي

في حال استمرار اللجنة بالصيغة الحالية، دون: إعادة تعريف مهامها، أو ضبط حدود تدخلها، فإن ذلك سيؤدي إلى:

_تكريس عرف سياسي جديد خارج الدستور،

_إضعاف دور القضاء اللبناني تدريجيًا،

_تحويل الجيش إلى منفّذ لضغوط خارجية بدل كونه أداة سيادية وطنية.

وهذا المسار يحمل خطر التطبيع مع الاستثناء، أي جعل الإجراءات الخارجة عن القانون ممارسة «عادية» بحجة الضرورة الأمنية.

2) سيناريو إعادة الضبط

وهو السيناريو الأكثر اتساقًا مع القانون يقضي بإعادة حصر اللجنة بدور الرصد والتبليغ فقط، منع أي تواصل مباشر بينها وبين الوحدات الميدانية، وإلزامها بإحالة أي ملاحظات عبر القنوات الدبلوماسية الرسمية حصراً.

هذا السيناريو يحفظ ماء وجه الالتزامات الدولية، دون المساس بالسيادة أو الحقوق الدستورية.

3) سيناريو الانتهاء التدريجي

في حال استمرار عدم الحياد، قد يتحوّل وجود اللجنة نفسه إلى عامل توتير بدل تهدئة، ومصدر فقدان للشرعية السياسية والأخلاقية. وعندها يصبح إنهاء دورها أو تجميده:

_خيارًا سياديًا مشروعًا،

_لا يُعدّ خرقًا لوقف إطلاق النار، طالما أن مهامها لم تكن جزءًا من التزام تعاقدي ملزم.

إنّ عدم الحياد يجرّد اللجنة من: صفة الوسيط، وأهلية الاستناد إلى تقاريرها كمصدر موثوق. وفي الفقه الدولي، يُعتبر أي جهاز: يفشل في التعامل المتوازن مع أطراف النزاع، جهازًا مسيّسًا لا تقنيًا. وهذا يسقط أي محاولة لاحقة لاستخدام تقاريره كأساس قانوني ضد طرف واحد.

إنّ تحوّل اللجنة إلى أداة ضغط أحادية: يعمّق الشكوك الشعبية، ويقوّض الثقة بأي آلية دولية مستقبلية، ويغذّي خطاب أن “القانون الدولي يُستخدم انتقائيًا”. وهذا أخطر على الاستقرار من أي خرق تقني محدود.

ثامنا: آليات المواجهة القانونية والسياسية

1)تثبيت عدم الصفة القانونية للجنة داخل النظام القضائي اللبناني.

2)حصر أي إجراء أمني أو تفتيش بإذن قضائي لبناني حصري.

3)رفض إشراك لجنة الميكانيزم في التنفيذ أو الاطلاع على المحاضر.

4)توثيق الانتهاكات الإسرائيلية ورفعها عبر قنوات رسمية مضادة.

5)تعزيز الخطاب القانوني السيادي في مواجهة محاولات تسييس الآليات التقنية.

ختاما يمكن القول بأنّ الإشكال الحقيقي في لجنة الميكانيزم لا يكمن في وجود آلية متابعة لوقف إطلاق النار بحدّ ذاته، بل في الانزلاق من التنسيق التقني إلى التدخل السيادي، ومن الحياد المفترض إلى الانحياز العملي. وفي ظل غياب أي أساس دستوري أو تشريعي يمنحها صلاحيات تنفيذية، تصبح ممارساتها – حين تتجاوز حدود الرصد والتبليغ – فاقدة للشرعية القانونية، ومهدِّدة لحقوق المواطنين ولمبدأ السيادة الوطنية.

وعليه، فإن التطورات التي أفرزها الاجتماع الأخير للجنة “الميكانيزم” تؤكد الحاجة الملحّة إلى إعادة ضبط دورها وحدود تدخلها، وتثبيت مرجعية القانون اللبناني كإطار وحيد لأي إجراء ميداني. فاستمرار هذا المسار دون تصحيح لا يعرّض فقط الحقوق الدستورية للخطر، بل يفتح الباب أمام تآكل تدريجي للسيادة، تحت غطاء آليات تقنية تفتقر إلى المشروعية والحياد.

إنّ حماية الاستقرار لا تمرّ عبر تمييع الدستور أو القبول بإجراءات استثنائية دائمة، بل عبر إعادة تثبيت المرجعية القانونية اللبنانية، وحصر أي التزام أمني ضمن الأطر الدستورية والقضائية، بما يحصّن الدولة، ويحمي الجيش، ويمنع تحويل الآليات التقنية إلى أدوات ضغط سياسي أو أمني خارج القانون.