لم يحدث منذ أكثر من عامَين أن اجتمع أهالي قرية جنوبية لبنانية بهذا الشكل ولهذا الغرَض. لقد اجتمعوا بالفعل كثيراً بعد أن فرقهم العدوان الإسرائيلي الهمجي، ودفعهم إلى مدنٍ وبلدات شتّى طلَباً للأمان من شتاء الصواريخ والاقتحامات والفوسفور الحارق في حرب العام الماضي (المستمرة بأشكال مختلفة). لكنّ اجتماعهم بعدها كان في كلّ مرةٍ اجتماعَ حُزن: اجتمع أهل القرى الجنوبية لتفقد بيوتهم وأرزاقهم في ضيّع أكلها النار والحديد والرماد، لزيارة زيتوناتهم المحروقة، أو المقتلعة من جذورها، ومحاولة إنعاش ما بقي منها، للاطمئنان على جيرانهم وأحبائهم، وبالطبع، لإقامة العزاء على شهدائهم الذين باتوا كثيرين.
لقد اجتمع أهل القرى كثيراً بعد ما سمي وقف إطلاق النار، لكنهم حتى في أيام الأعياد، اجتمعوا على الجبّانات يزورون الراحلين، ولمّوا بعضهم في مجالس العزاء. أجّلوا كثيراً من أفراحهم وأعراسهم وأعيادهم، وانتظروا أن تهدأ السماء من فوقهم… فلم تهدأ.
لكنّ اجتماعهم الأخير هذا مختلفٌ عن كلّ اجتماعاتهم السابقة. فهذه المرّة هو جمْعُ فرَح، أو على الأقل، شيءٌ من فَرح، مِن رغبة بالتعبير عن حبٍّ كبير للحياة التي يحاول العدو سلبها وسحقها.
مقالات ذات صلة
في بلدة الخيام، أضاء الشبان والشابات شعلة فرح في حديقة البركة، لذكرى “أبطالنا الذين ضحوا بالدم كي نعود، كي يرتسم الفرح على وجوه الأطفال في قلب حدائق وساحات الخيام”، كما جاء في منشور على صفحة “بلدية الخيام”. ففي أجواء عيد الميلاد ورأس السنة، دعت البلدية، وأهالي الخيام، وجمعية “الخيام تنهض” الأهلية، إلى سهرة حول دفء النار ليلة السبت في 19 كانون الأول/ ديسمبر. تحت طنين المسيرات الإسرائيلية التي لم تغادر سماء القرية، قرر الأهالي إضاءة الشجرات وتشغيل الموسيقى وافتراش الحديقة والملاعب.
من سهرة النار الخيامية. (الصورة عن صفحة بلدية الخيام).
تنقش النساء أصابعهنّ على العجين، تمدّ واحدة الزعتر وزيت الزيتون البلدي عليه، ثمّ تقبع العجينة عن قبّة فرن الصاج وتُناوِل الكبار والصغار. يجول شباب بلباس شخصيات كرتونية على الأطفال ويرقصون معهم، ويأتي لهم “بابا نويل” بالهدايا في مفاجأة سارة. لا يهمّ إن كانت العائلات مسلمة أو مسيحية، الكلّ هناك، والفرحة يتقاسمها الجميع.
تنتشِل أصوات ضحكات الأطفال اللاهين على المراجيح ولعبة “طالعة يا نازلة” الكبار من عوالم الهمّ والأحزان، ولو لبرهة، وتعيد الساحة “زينة، أولاد، صوت أجراس” كما تقول الأغنية.
بعض هؤلاء الأطفال هم أولاد شهداء. قالت إحداهن لإحدى محطات التلفزة: “بابا استشهد بالخيام، وعشان هيك نحن رجعنا على الخيام”. أضافت فتاة أخرى: “نزحنا عدة مرات ]أثناء الحرب[، لكن ليس هناك أجمل من العودة إلى بلدتنا”.
خلْفَ هذا المشهد كلّه، وعلى إحدى الأشجار في الحديقة، عُلّقت لوحة كُتب عليها “دم شهدائنا يرسم حياة”.


“دم شهدائنا يرسم حياة” (الصورة: بشير أبو زيد – عن فيسبوك)، ويساراً، نساء الخيام منكبّات على صناعة مناقيش الصاج في السهرة (الصورة: بلدية الخيام).
غداء قروي في قرية عيتا الشعب الحدودية مع فلسطين المحتلة (الصورة عن فيسبوك)
لم تكن الخيام وحدها تحاول إعادة اختراع الصمود فرحاً بين بلدات وقرى الجنوب. مثلها فعلت عيتا الشعب، القرية الحدودية التي دمرها العدوان الإسرائيلي بشكل شبه كامل، فعملت على إقامة أكبر غداء قروي لأهالي القرية والنازحين مجتمعين. أما مدينة النبطية، المكنّاة “حاضِرة جبل عامل”، فأضاءت شجرة ميلاد كبيرة أمام نصب العالِم حسن كامل الصباح.
شجرة الميلاد في مدينة النبطية أضيئت مساء 21 كانون الأول/ ديسمبر 2025. (الصورة عن فيسبوك)
يحاول الجنوب، المكشوف اليوم أمام العدوانات اليومية، أن يظلّ مرتعاً للحياة التي يحبها ودفع من أجلها الغالي والنفيس. منذ ما سمي “وقف إطلاق النار” في لبنان في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، سقط أكثر من 350 شهيداً وأصيب أكثر من 670 جريح. عشرات البيوت هُدّمت بعد ذلك التاريخ، وارتُكبت آلاف الاعتداءات الجوية والبرية والبحرية، بالإضافة إلى احتلال أراضٍ ومواقع لبنانية في جنوب البلاد.
ومذّاك أيضاً، ما زال عشرون أسيراً لبنانياً في قبضة الاحتلال، يشعر ذووهم بأنهم متروكون، فيما يماطل الاحتلال و”يفاوض” بالنار، ويتوعّد بحروبٍ متجدّدة.
مقالات ذات صلة
فوق الجنوب (وفوق لبنان بأسره، وإن لم تشعر بالثقل نفسه سائر المناطق)، يمدّ الاحتلال الإسرائيلي ظلّه الأسود منغِّصاً عيش الناس الكريم ومهدِّداً كلّ شيء: البيت والمدرسة والطرقات والمعامل ومن فيها. تحت الظلّ الأسود، ثمة مَن قرر المقاومة، بالنار، بالصمود، بالعودة إلى القرى المدمرة… وبالفرح إن استطاعوا إليه سبيلاً.
