شهرزاد عجرودي
خلف الموانئ والضباب، عبر امتدادات المدن والليالي، وعلى حافة شغفٍ لا يعرف الهدوء، وُلِد المايسترو الراحل نور الدين الصايل عام 1948 بطنجة، المدينة التي تحمل في موانئها سرّ البحر وسحر اللقاءات العابرة.
رجل فكر يجر الأسئلة خلفه، كاتب سيناريو يعرف كيف يوزّع الظلال على الشاشة، روائي يعيد ترتيب العالم بالكلمات، منتج وإعلامي وناقد سينمائي، يسير في دروب الفن كأنها امتداد طبيعي لخطواته. أربعة عقود وهو يضع كيانه كله في السينما المغربية، يدفعها إلى الضوء، ويسعى إلى أن يجعلها تقف بثبات، وتشق طريقها بين العتمات.
تابع دراسته في ثانوية ابن الخطيب في طنجة، وبدأ يختبر هشاشة الأسئلة وقوة الفكر،بنى لغته في التعامل مع الأفكار، وبدأ حواره الطويل مع المعرفة والحياة، حوارٌ سيكبر معه، ليصير لاحقًا رسالته المهنية ومبناه الفكري العميق.
حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، بكلية الآداب بالرباط. واشتغل في بداية مشواره مُدرّسا بثانوية مولاي يوسف، ثم مفتشا عاما لمادة الفلسفة، وهي الوظيفة التي أداها حتى تاريخ تعيينه مديرًا للبرامج في التلفزة المغربية بين سنتي 1984 و1986حاملًا معه خبرة الفلسفة وعقله النقدي، وتجربته العميقة مع الصورة وخطاباتها.
من الصف إلى الميدان، ومن التعليم إلى التلفزة، والنقد والإبداع، كان نور الدين الصايل دائم الحركة، كنهار لا يغفو، أو بحر لا يهدأ.
خطوةٌ في الضوء… وأخرى في الحلم.
ومنذ سنة 1973، ستصبح السينما رفيقته الدائمة، حيث أسس رفقة أصدقائه الجامعة الوطنية للأندية السينمائية في المغرب. ومع كل عرض سينمائي، أو مناقشة حول فيلم، ظل صوته يتردد، وإشرافه يشقّ الطريق أمام جيل سينمائي جديد، قبل أن يفضي هذا المسارإلى تأسيس مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة عام 1977، وهو المهرجان الذي سيظلّمتواصلا حتى الان، منصة لاحتضان المواهبوالرؤى السينمائية المغربية والإفريقية.
لم يقتصر عمله على المغرب، فقد امتدت رحلته إلى العالم، حيث تولى منصب مدير البرامج في مجموعة “كنال بليس الفرنسية”، قبل أن يعود إلى القناة الأولى عام 1999 ليشرف على البرامج والبث، ثم مديرًا عامًا للقناة الثانية، ومديرا للمركز السينمائي المغربي بين سنتي 2003-2014، ونائبا مفوضا لرئيس المهرجان الدولي للفيلم بمراكش خلال الفترة نفسها. كما ترأس مؤسسة السينما الإفريقية بخريبكة ولجنة أفلام ورزازات، وكان عضوًا في المكتب التنفيذي لشبكة Europa Cinemasبباريس.
ومن خلال هذه المناصب التي شغلها، ظل نور الدين الصايل صانع مشاهد، موجها، وحارسا للنوافذ التي تصل إلى البيوت، ينقل فلسفته، رؤيته، وإحساسه بالجمال إلى الشاشةوالسينما، ويجعل منهما مساحة للتفكيروالحوار.
عرف باجتهاده في البحث في آفاق التفكير الجديد، والسعي إلى تطوير المشهد الإعلامي المغربي متابعًا لكل تفصيل صغير أو كبير، ومجسّدًا رؤية فلسفية عالية للتقاطع بين الثقافة والإعلام.
في قلب هذا الصخب المهني، عرف الصايل أيضا كناقد، كاتب، مؤلف، صانع سيناريوهات، وأستاذًا للفلسفة. كتب مع المخرج محمد عبد الرحمان التازي أفلاما مثل، “الرحلة الكبرى”، “باديس”، “للا حبي”… نصوصا تقترب من مسارات الإنسان، رحلاته، صراعاته، حبه وخيباته، واشتباكه الدائم مع الزمن. وأطلق مجلة Cinéma 3، منصة تأملية، فضاء للنقد، للسينما، للمعرفة والحرية.
أما روايته “طيف المخبر”، الصادرة بالفرنسية عام 1989 (المترجمة إلى العربية سنة 2024)، فكانت انتقالًا جديدًا نحو الأدب، ممزوجًا برؤيته الخاصة للوجود.كيف يلمس الإنسان العالم دون أن يخدشه؟
ولأن السير في الضوء لا يخلو من ظلال، عبر نور الدين الصايل تجربةً مواربة، بقيت طويلاً في منطقة الصمت. حيث اقتحم رجلان مكتبه في القناة التلفزية الأولى بالرباط، استعملا لهجة رسمية صارمة، واقتاداه إلى مكان مجهول، مختطفا، معزولًا، بعيدًا عن الزمن، ربما لأن أفكاره كانت تمشي أسرع مما يسمح به السياق. في ذلك المكان المغلق، وتحت حراسة لا تخلو من مفارقة، تعرّف أحد حارسي الفيلا على أستاذه القديم. سأله إن كان يحتاج شيئًا، فاختصر طلبه في الحصول على هاتف ليطمئن زوجته الفرنسية. أخبرها بالواقعة بدون تفاصيل، وطلب منها أن تتصل فورا بالوزير آنذاك السيد عبد اللطيف الفيلالي.
خرج نور الدين الصايل من هذه التجربة، أقلّ ثقة في اللحظة، وأكثر إيمانًا بالمسار، ومضى بعدها كما كان دائمًا، مؤمنًا بأن الاستمرار الهادئ هو أعمق أشكال الوفاء لمسار يعرف كلفته مسبقا.
وكما عاش الفكر كرحلة نحو المعنى، عاش الحبّ كإقامة في الضوء، في قلب ذلك الضوء التقى نادية لاركيط، الإعلامية التي كانت تشبهه في انشغاله بالجمال وفي يقظتها وإحساسها بالعالم. حدث اللقاء مصادفة عام 2001، كأنّ القدر يُخرج مشهدًا طويلًا من فيلم لم يُكتب بعد.
رأته للمرة الأولى فهالتها نحالته، رجل يعمل كما لو أن الزمن يطارده، ويعطي من روحه أكثر مما يحتمل الجسد. قالت له مازحًة: “ربما سأنقذك”، وبعد أيام قليلة، طلب منها أن تترك عملها لتلتحق به: “ستشتغلين معي، لكن بنصف راتبك”، وفي العمق كان يعني، ستشاركينني الحياة لا العمل فقط.
تبادلا أسماء الأفلام بدل الهدايا، كانت السينما لغتهما المشتركة. بين المرأة التي تؤمن بالمعنى والرجل الذي يسكنه الحلم، وُلد ابنهما سليمان ألكسندر الصايل، امتدادا لتلك الكاميرا التي لم تتوقف يومًا عن التقاط الحياة. كانت ناديةمرآةً ناعمة ورفيقة رقيقة، تشاركه يقظة الفكر وشغف الصورة، وتعيد إليه، كلما أنهكه الضوء، ظلًّا من دفء البيت ومن معنى الحبّ حين يتحوّل إلى رؤية.
تلك الرؤية كانت آخر ما تبقّى له، وآخر ما تركه للذين أحبّهم، كأنما كان يتهيأ للعبور نحو ضوءٍ آخر.
هكذا أغمض نور الدين الصايل عينيه للمرة الأخيرة، مساء يوم الثلاثاء 15 ديسمبر 2020، في مستشفى الشيخ زايد بالدار البيضاء، عن عمر ناهز 73 عامًا، متأثرا بفيروس كورونا الكريه. لم يكن رحيله فقدان إعلامي أو ناقد سينمائي فحسب بل كان خسارة معلم كبير،مفكر،مايسترو، وصديق لكل من آمن بالسينما كجسر للعبور، وتجربة الفكر وممارسة الاختلاف.
رحل نور الدين، لكن السينما التي أحبّها، والبرامج التي صنع، والرواية التي كتب، والروايات التي ظلت عالقة في رأسه، وكذا المناقشات التي أسهم فيها، والأجيال التي ألهمها، والنوافذ المشرعة على الأمل والحلم، تظل حية تذكره وتشكره.
عاش كمن يعبر العالم بعدسةٍ مشرعة على الدهشة.
وبقي اسمه محفورًا، كالرياح في السهول، والضوء في الظلال، كالبحر، كالريح، كالحلم، حاضرًا، حيًّا، متجددًا، وخالدًا.
