الكعبة أو المسجد النبوي، النفط أو الصحراء، الشيوخ أو لورنس العرب: قد تكون هذه أولى الصور التي تتبادر إلى الذهن عند التفكير في السعودية. لكن سرعان ما يتبادر إلى الذهن أيضًا انتهاكات حقوق الإنسان، وتبييض السمعة بالرياضة، كما يحدث في الدوري السعودي لكرة القدم الزاخر حاليًا بأسماء عديدة لامعة. بأموالٍ طائلة وتمويل مشاريع جذّابة تحظى بشعبية عالمية، تحاول المملكة التغطية على سجلها الحقوقي السيئ الحافل بالمظالم.

بهذا المعنى، يمكن وصف مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي المقام في مدينة جدة الساحلية السعودية بأنه مثال على «تبييض السمعة بالثقافة». ولكن ما مدى صحّة هذا الاتهام؟ من ناحية ما يمكن اعتبار هذا الحدث، وما شابهه من مهرجانات وفعاليات فنّية في الرياض إلى عدد لا يُحصى من الفعاليات الرياضية رفيعة المستوى، وأبرزها كأس العالم لكرة القدم 2034، وصولًا إلى الاستثمارات الثقافية، محاولات لتطوير قطاعات اقتصادية جديدة عبر ضخ مبالغ طائلة.

لا شكّ أن «الفلوس زي الرز» في جدة، حيث يُقام مهرجان سينمائي متنامي للمرة الخامسة هذا العام. وللمرة الثانية، يُقام المهرجان في قصر المهرجانات الجديد الأنيق، الذي صُمّمت واجهته الخارجية على غرار بيوت المرجان الرائعة في البلدة القديمة، بما في ذلك الإضافات الخشبية المميّزة التي تشبه النوافذ البارزة، بينما يتميّز تصميمه الداخلي بهندسة معمارية حديثة في قاعة عرض مجهزة بأحدث التقنيات وخمس قاعات أصغر.

عُرض هذا العام أكثر من مئة فيلم روائي طويل وقصير، وكانت الاختيارات أقل توجهًا نحو الغرب مما قد يتوقّعه المرء. مع ذلك، ظهر نجوم مثل أدريان برودي وداكوتا جونسون وكيرستن دانست في لقاءات حوارية مختلفة، ومن المفترض أنهم تقاضوا مبالغ كبيرة مقابل ظهورهم.

ومن الأفلام الهوليوودية النموذجية، وإن كانت ممولة بأموال سعودية، فيلم محارب الصحراء للمخرج روبرت وايت، وهو ملحمة صحراوية مذهلة بصريًا، تُحوّل حدثًا تاريخيًا من التاريخ السعودي إلى فيلم مغامرات معاصر ذي طابع نسوي. بميزانية تقارب 150 مليون دولار، يعدّ هذا الفيلم أغلى إنتاج صُوِّر في السعودية على الإطلاق، وأظهر، أقلّه من الناحية الفنية، ما يمكن أن تصل إليه صناعة السينما السعودية اليوم.

من فيلم محارب الصحراء

عُرضت بعض الأفلام العالمية، مثل الفيلم البرازيلي العميل السري والفيلم الفرنسي ساحر الكرملين، بشكل عشوائي إلى حد ما ضمن البرنامج، بينما كان الفيلم الألماني-السوري يونان، الذي يتناول فيه أمير فخر الدين، السوري المولود في كييف لأبوين من الجولان المحتلّ ويقيم حاليًا في برلين، شعوره بالضياع في وطنه الجديد، أكثر ملاءمة من الناحية الموضوعية.

من فيلم يونان

الأهم من عروض الأفلام، التي لم تشهد إقبالًا كبيرًا باستثناء العروض الافتتاحية في أكبر دور السينما بالمهرجان، هو الذراع الاقتصادي للمهرجان، ما يُعرف بـ«سوق البحر الأحمر»، الذي يُعد سوقًا للأفلام، وملتقى للصناعة، وفرصة لاستكشاف إمكانيات الإنتاج المشترك. يقع السوق بعيدًا قليلًا عن قصر المهرجان في مبنى مؤقت ضخم، يُفكك سريعًا بعد انتهاء المهرجان، ويُفترض أن يُستبدل بمبنى دائم في المستقبل. 

لم تبدأ المملكة العربية السعودية بالانفتاح إلا بعد تولي محمد بن سلمان منصب ولي العهد، وهو يُعتبر صديقًا مقربًا لأمير أبوظبي، محمد بن زايد، ويُرجّح أنه تلقّى منه بعض النصائح حول كيفية تحويل نظام حكم استبدادي إلى نموذج «كيوت» للانفتاح والمعاصرة. تكمن الصعوبة التي يواجهها بن سلمان، بشكل أساسي، في التوفيق بين انفتاح بطيء ولكن ثابت العزم وبين المبادئ الدينية المتشددة للإسلام الوهابي السائد في المملكة العربية السعودية.

تتجلّى التناقضات بوضوح في حالة هيفاء المنصور، المخرجة السعودية الأشهر عالميًا، التي عرضت فيلمها الجديد المجهولة في جدّة. نشأت المنصور في الخارج، وصوّرت فيلم وجدة في الرياض عام 2011، وهو أول فيلم يُصوَّر في المملكة. في ذلك الوقت، كان طاقم العمل الفني بأكمله من الخارج، ولم تتمكّن المنصور من الإشراف على التصوير الخارجي بنفسها، ولم يكن من الممكن عرض الفيلم في السعودية آنذاك، إذ لم تُستأنف عروض السينما العامة إلا عام 2018 بعد حظر دام 35 عامًا.

من فيلم المجهولة

تغيّر الكثير منذ ذلك الحين. في فيلم المنصور الجديد، تظهر الشخصية الرئيسية، نوال، غالبًا في سيارتها، وهي مطلّقة، وتعيش وحيدة. كلها أمور عادية تمامًا بالنسبة للمرأة في أيّ مكان غير المملكة، إذ لم تكن متاحة في السعودية إلا منذ بضع سنوات: هذه الحرّيات الجديدة جزء من سياسة الانفتاح التي ينتهجها بن سلمان، والتي أكسبته سمعة طيبة، لا سيما بين الشباب والنساء، بصرف النظر عن تنكيله بالنسويات اللائي قدن حراكًا لمنح النساء حقّ القيادة في شوارع المملكة.

لكن الأهمّ من ذلك كله هو النقد المبطّن الذي يوجّهه «المجهولة» إلى وضع المرأة المتدنّي في البلاد، رغم كل التقدّم المُحرز. تعمل الشخصية الرئيسية، نوال، في الشرطة بوظيفة مؤقتة، لكنها تطمح إلى منصبٍ أعلى، وتستمع إلى بودكاستات عن الجرائم الحقيقية، وسرعان ما تبدأ تحقيقها الخاصّ في وفاة مراهقة يُعثر على جثتها وسط الصحراء. يُظهر زملاؤها الرجال تباطؤًا في المبادرة، فهم يشتبهون في أن مصالح عائلة ثرية على المحكّ، عائلة تهتمّ بشرفها أكثر من اهتمامها بحل لغز وفاة ابنتها، خاصةً أنها ربما التقت برجلٍ قبل وفاتها، ما سيجر عليهم فضيحة. مع ذلك، تُصرّ نوال وتثبت في النهاية نسويتها، إذ تأخذ القانون بيدها وتحارب النظام الأبوي.

اللافت، أنه على الرغم من النقد الاجتماعي الواضح الذي يحمله الفيلم، إلا أن هيئة الأفلام السعودية دعمته، ربما لعلمها بأن هذا الفيلم التشويقي مُتقن الإخراج سيُشاهد في الخارج أكثر مما سيُشاهد في المملكة نفسها، باستثناء عرضه في هذا المهرجان، فرغم النمو السريع للإنتاج السينمائي السعودي، حيث عرض المهرجان وحده حوالي 35 فيلمًا روائيًا وقصيرًا محليًا، إلا أن دور العرض التجارية في السعودية تعرض في الغالب أفلامًا هوليوودية عادية، إلى جانب أفلام هندية أو مصرية.  

يُظهر فيلم كوميدي رومانسي مثل «مسألة حياة أو موت» للمخرج أنس باطهف مدى المتعة التي يمكن أن يستمدها الجمهور السعودي من الأفلام. تدور أحداث الفيلم حول امرأة تؤمن بالخرافات تعتقد أنها ستموت في عيد ميلادها الثلاثين، ولذلك تفضل إنهاء حياتها قبل ذلك. في المقابل، ثمة طبيب لا ينبض قلبه إلا في غرفة العمليات أثناء تشريح المرضى. ينسج القدر خيوطه بين المرأة التي ترغب في الموت، والرجل الذي يرغب في القتل.

من فيلم مسألة حياة أو موت

موقف غير مألوف يستغلّه باطهف، ذو الشعبية الكبيرة في السعودية، ليضفي عليه لمسة كوميدية ودرامية مميزة. وعندما تتمرّد الشخصيات على الأعراف، ينفجر الجمهور في العرض الأول بالتصفيق الحار، ما يشير إلى الإمكانات التخريبية التي قد تحملها كوميديا ​​رومانسية عادية في بلد لم تُفتح فيه دور السينما إلا منذ سبع سنوات.

لن تكون السعودية أول دولة تقلل فيها السلطات، أي الرقابة، من شأن براعة صنّاع الأفلام في إيصال رسائل خفية ضمن قصصهم. قد تخضع السينما السعودية لرقابة حكومية مشدّدة، حيث يهدف مهرجان البحر الأحمر السينمائي في المقام الأول إلى دعم صناعة السينما المحلية، إلا أن ما يستخلصه الجمهور من الأفلام في نهاية المطاف يصعب التحكّم فيه. وربما تكون هذه الكوة التعبيرية المختلسة أفضل ما في الأمر كلّه.